بعد ثلاث سنوات على إقرار قانون حق الحصول على المعلومات لجميع الأردنيين بمن فيهم الإعلاميون, لم يتعامل مجلس المعلومات المكلّف بتطبيق هذا القانون إلا مع خمس شكاوى ضد مؤسسات رسمية أحجمت عن الاستجابة لطلبات مقدميها حسب النماذج المعتمدة.
كان يفترض أن يحفّز أول قانون من نوعه في العالم العربي ثورة بيضاء.
إلا أن إخفاق المجتمع في استغلاله, ضبابية المواد الخاضعة لحق الإفصاح وقصور الحكومة عن تطبيقه تحول دون الإفادة منه.
فضمان تدفق المعلومات أمر مهم لأغراض الرقابة البرلمانية والقضائية والشعبية عبر الصحافة والأحزاب, خاصة لتصويب مسار الديمقراطية الذي اتجه نحو الارتباك والتردد بعيدا عن انطلاقته الأولى عام ,1988 وذلك في ظل غياب إرادة سياسية واضحة بمأسسة الإصلاح السياسي ولو بشكل مبرمج وتدريجي.
كان من المفترض أن يتسابق مئات الصحافيين والمحامين لاستدراج أرقام وبيانات رسمية كونهم القوى المجتمعية الأكثر تذمرا من ثقافة إخفاء الحقائق التي يحتاجونها لحماية الحق العام, بسط العدالة ووقف الإساءات. ففي أمريكا, رابع دولة تقر قانون الحصول على المعلومات, تعاملت المؤسسات المعنية هناك مع 2.4 مليون طلب عام ,2008 غالبيتها جاءت من رجال أعمال يقدّرون أهمية الشفافية في اتخاذ القرارات.
في الأحوال الطبيعية, يفترض تدفق سيل معلومات وإحصائيات لتحليلها ونشرها والتعليق عليها في حدود القانون الجديد. كما يفترض أن يخفف القانون التدخل الرسمي المتواصل في عمل الصحافيين.
فمن من بين 120 وزارة ومؤسسة حكومية, 85% فقط أنهت عملية أرشفة وتصنيف وثائقها لفرز السرّي عن المسموح البوح به, بحسب مأمون التلهوني مفوض المعلومات.
كان من المفترض أيضا أن تتزحزح أسس العلاقة غير المتكافئة بين بعض إعلاميين ومسؤولين- القائمة على التخوين والإقصاء أو التهديد والابتزاز, خاصة وأن سلاسة تدفق المعلومات تشكّل أحد أهم أركان حرية الرأي المصانة دستوريا.
فالقانون الأخير جاء نتيجة اتساع رقعة انتشار المعلومات وتنوع أدواتها, في ضوء أتمتة الحياة وتنامي المسار الديمقراطي في المملكة. كان المطلوب تنظيم هذا الحق بصورة متوازنة, تتيح فرصة الاطلاع على المعلومات, والحفاظ في الوقت ذاته على حق الدولة في حماية سرية بعض الوثائق, خاصة ما يتعلق منها بالأمن الوطني أو النظام العام. كما يحمي القانون المواطن من خلال حجب معلومات "لأسباب تتعلق بالصحة العامة أو الآداب العامة أو الحرية الشخصية أو المساس بحقوق الآخرين وسمعتهم".
على أن جوهر الاختراق يكمن في تعزيز المادتين 6و 8 من قانون المطبوعات والنشر المعدل لعام 1999 اللتين نصتا على حق الصحافي في الحصول على المعلومات.
لكن القانون لم يغيّر الثقافة المجتمعية السائدة قيد أنملة. ولم يستنهض الفئات الأكثر تضررا من استمرار ثقافة السرية الشائعة. لم يتغير الكثير في طريقة تعاطي السلطة التنفيذية مع الإعلام مع أن رئيس الوزراء السابق نادر الذهبي, كخلفه سمير الرفاعي, أكد دعم الناطقين الإعلاميين مرارا إلى تزويد الصحافيين بمعلومات ووثائق تسند أخبارهم توخيا للدقة.
لغاية اليوم رفعت أربع شكاوى من أكاديميين وخامسة من صحافي اشتكوا من عدم استجابة الجهات المعنية لطلباتهم, حسبما يؤكد التلهوني وهو أيضا مدير عام دائرة المكتبة الوطنية. تلك الشكاوى ردّت إما لعدم اختصاص المجلس أو لأنه اعتبر أن رفض الإفصاح عن معلومات جاء متماشيا مع قائمة طويلة من الممنوعات التي فرغّت ما كان يفترض أن يكون قانونا عصريا من مضمونه.
سجلات محكمة العدل العليا تؤشر أيضا إلى أن أي شخص أو جهة لم يسجل حتى تاريخه طعنا في قرار حجب المعلومات منذ صدور القانون.
فلماذا تقاعست الفئات المستفيدة عن إنجاح التغيير عبر اختبار القانون وتجربته بهدف كشف أوجه القصور للمطالبة لاحقا بتعديل بنود إشكالية فيه بدل استمرار التشكيك? ولماذا أخفق الجميع في الترويج للقانون وزيادة التوعية المجتمعية به? ولماذا 40% من الإعلاميين لا يعلمون حتى الآن بتفاصيل القانون فضلا عن عدد أكبر من المسؤولين?
في ذلك مفارقة محزنة.
ربما غاب الحماس المجتمعي لتفعيل القانون لأنه لم يأت نتيجة سنوات من الكفاح الممنهج, بل تماشيا مع رغبة الحكومة في إظهار نوايا مرتبكة لتحديث الحياة السياسية وصيانة حق التعبير, استجابة لرغبات الدول المانحة وسط إقليم تحتل غالبية حكوماته صدارة الدول الأشد قمعا.
غالبية الصحافيين مثلا يشعرون بأن قانون المطبوعات والنشر يتيح لهم الحصول على المعلومات. كما تتكىء الغالبية على علاقات ومعارف للحصول على المعلومة من دون اللجوء إلى طلب رسمي, مع أن في ذلك مخاطرة مهنية من حيث احتمال وصول المعلومة مجتزأة أو غير موثقة ما قد يفتح باب المساءلة. فثمة صحافيون لا يستطيعون الانتظار شهرا من تاريخ تقديم الطلب للحصول على المعلومة. ومن يكسف لا يبادر إلى الطعن بالقرار إما لطول فترة الانتظار أو ارتفاع رسوم التقاضي, أو لأن القانون خال من النصوص القانونية المتصلة بمقاضاة المتسبب في حجب المعلومات.
فالقناعة لدى الغالبية تبقى بأن السلطة في دول العالم الثالث تفرغ مثل هذه القوانين من أي مضمون, أي تسرق باليد اليسرى ما توفره دساتير بلدانها باليمنى.
كما أن مطاطية القيود والاستثناءات تخرج أحيانا كثيرة عن أغراض محددة مثل احترام حقوق الآخرين وسمعتهم وحماية الأمن الوطني, ما يشجع السلطات على توسيع مدلولات هذه المصطلحات لتُدخل فيها ما قد لا يكون له أي علاقة بمصلحة المجتمع, اللهم إلا الحفاظ على امتيازات المسؤولين, والاستئثار بالثروة والسلطة, ومنع مواطنيهم من المشاركة في صنع القرار.
كما أن القانون يترك لكل وزارة صلاحية تصنيف الوثائق وأرشفتها بما لا يتعارض مع قائمة الممنوعات الطويلة وأحكام أخرى بما فيها قانون حماية وثائق وأسرار الدولة, النافذ منذ أربعة عقود. يتداخل مع ذلك غياب قانون يحدد "مددا زمنية" للإفراج عن الوثائق الرسمية.
الأهم أن حرّية تدفق المعلومات لا يمكن أن تتحقق إلا ضمن بيئة مناسبة, ولا يمكن فصلها عن الظروف المحيطة. فالبيئة المنفتحة تشجّع الحصول على المعلومات. نذكّر أن الإعلام هنا مكبل ب¯ 14 قانونا, غالبيتها يشكّل عائقا أمام هذه التجربة بما فيها قوانين نقابة الصحافيين, العقوبات, انتهاك حرمة المحاكم وأمن الدولة.
كما تملك الحكومة وسائل تأثير على مختلف وسائل الإعلام, بما يحد من استقلاليتها ويشوّش رسالتها في إطلاع الجمهور, رغم مدونة السلوك التي أقرتّها حكومة الرفاعي. ملكية التلفزيون والإذاعة ما تزال حكومية. وما تزال نقابة الصحافيين ضعيفة لأنها تعمل تحت سيطرة الحكومة. والصحافيون يحتاجون إلى إذن مسبق للعمل.
متابعو الصحف اليومية شبه الرسمية والمستقلة يشعرون بأن المنافسة بينها شبه معدومة. فصفحاتها الأولى تبدو نسخة متكررة, تحديدا ما يتعلق بالأخبار الرسمية التي تنشر من مصادرها من دون زيادة أو نقصان. وتظل الثقة ضعيفة بين المواطن وإعلامه المرعوب, فيتابع مصادر بديلة مثل الفضائيات والاذاعات والصحف العربية والمواقع الاخبارية.
مع ذلك, لا يمكن إطلاق حملة للمطالبة بتعديل قانون حق الحصول على المعلومات قبل استنفاذ بنوده لمعرفة الصالح من الطالح. لذلك على الاعلاميين المبادرة لشرعنة مطالبهم عبر تعديل القانون لاستعادة معنى وجوده وضمان حق الأمة في ممارسة مسؤولياتها الدستورية عبر معرفة ما يدور حولها من أمور علنية وخفية. وعلى الحكومة الترويج للقانون وتوعية المسؤولين عن انفاذه.