خلال كل السنوات العجاف التي تلاحقت بعد انهيار "الربيع العربي" ظلت العيون محدقة تراقب ثورة الياسمين في تونس، وتضرب بها مثلا على التحول الديمقراطي، وتتغنى بقدرة النظام السياسي على تجديد نفسه، والقدرة على اجتراح الحلول في ظل كل التحديات والظروف.
ربما لم يكن الواقع جميلا في تونس كما كنا نتطلع إليه.. كانت تمنيات ورهانات بعد إخفاقات "الربيع العربي"، وما راج وساد بأن الديمقراطية لا تليق بالمجتمعات العربية، وبأنها ليست أكثر من "سلم" لصعود تيارات أو أحزاب مستبدة جديدة لتعيد إنتاج أنظمة مستبدة بأقنعة جديدة مختلفة.
كنت أزور تونس بانتظام، وكنت سعيدا وفخورا بهوامش الديمقراطية التي تحققت، وبالحريات التي انتعشت بعد حقبة طويلة من حكم بوليسيّ، والحقيقة أنني كنت أسمع غضبا لا يمكن إخفاؤه من الناس الذين ازدادوا فقرا، وكنت أشاهد مواجع الناس من وضع اقتصادي يطحنهم، في وقت كانوا يرون "طبقة" سياسية جديدة تغتني وتتمركز بيدها السلطة.
حالة الاستعصاء السياسي كانت تعصف بتونس؛ فالنظام الديمقراطي الذي شُيّد بعد الثورة وبعد سقوط نظام بن علي كان ينتج توازنات سياسية تعطل آليات عمل الدولة، وتفاقمت هذه الأزمة خلال الأشهر الست الماضية بعد الصراع العلني الذي استحكم بين رئيس الجمهورية من جهة والحكومة والبرلمان من جهة أخرى، وأصبح الوضع خطيرا جدا ولا يُطاق بعد تفشي جائحة كورونا، ووفاة 18 ألف تونسي بهذا الفيروس اللعين، وإعلان الحكومة انهيار المنظومة الصحية، والتزايد الكبير للمديونية.
كانت تونس تحتفي بذكرى عيد الاستقلال، وبمرور أكثر من 10 سنوات على ثورتها حين خرج رئيس الجمهورية قيس سعيد بقرارات يُحكم فيها سلطته المطلقة، فيجمد عمل مجلس نواب الشعب، ويرفع الحصانة عن أعضائه، ويُقيل رئيس الحكومة.
أعلن رئيس الجمهورية قراراته الموجهة للشعب التونسي بحضور قادة الجيش والأمن في رسالة واضحة إلى أنهم يوافقون ويدعمون قراراته، وعلى الفور كان الجيش والأجهزة الأمنية يمنعون رئيس مجلس النواب زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي من الدخول إلى مبنى مجلس النواب، وحين خاطبهم مطالبا إياهم بحماية الدستور، أجابوه بأنهم يحمون الوطن.
منذ تلك اللحظة وتونس والعالم منشغلون بتقييم ما حدث، يتساءلون: "هل ما حدث انقلاب على شرعية الدستور والدولة"؟
الرئيس قيس سعيد يدعي أنه يحتكم إلى الفصل (80) من الدستور الذي يعطيه الصلاحية في "اتخاذ تدابير في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن، وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي بدواليب الدولة".
والرئيس -الخبير الدستوري- يتجاهل أن النص الدستوري يُحتم عليه استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، ويشترط أن يظل مجلس النواب في حالة انعقاد دائم، لا أن يُصدر فرمانا بتجميده، وبإقالة رئيس الحكومة.
لم يطل صمت الغنوشي، زعيم النهضة الذي حاول دخول البرلمان وظل معتصما محتجا على أبوابه، إذ أعلن أن قرارات رئيس الجمهورية مخالفة للدستور، وانقلاب على مؤسسات الدولة، ودعا الشعب إلى الوقوف ضد مشاريع الانقلاب، ورفض العودة إلى ما أسماه دياجير الحكم الديكتاتوري.
الإعلامي المرموق، رئيس تحرير جريدة الصحافة، زياد الهاني، أول من كتب بشكل جريء على صفحته على الفيسبوك قائلا "عندما تقوم بتجميد برلمان أكد الفصل (80) من الدستور بقاءه في حالة انعقاد دائم، وتغلق بالجيش أبوابه، فهذا اسمه انقلاب، ولا يحتمل تسمية أخرى".
وتابع كلامه "عندما تقوم بإقالة حكومة وعزل رئيسها الذي لا يمكن لغير البرلمان سحب الثقة منه، فهذا اسمه انقلاب ولا يحتمل تسمية أخرى".
وختم الهاني كلامه "الذين فرحوا بقرارات قيس سعيد لأنها أراحتهم من حكومة فاشلة، وائتلاف حكم راكم معاناتهم وهمومهم، أكدوا أننا ما زلنا غير مؤهلين للديمقراطية، وغير جديرين بالانتماء للعالم المتحضر، حيث تنتخب الشعوب حكامها عبر صناديق الاقتراع، وتسحب الثقة منهم عبر صناديق الاقتراع عندما يفشلون، لكن هل تعتقدون أن هذا الانقلاب سيحل مشاكل البلاد"؟
رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذي لا يستند إلى قاعدة حزبية، جاءت به صناديق الاقتراع، واستطاع أن يهزم قادة الأحزاب السياسية المتحكمة بالمشهد السياسي التونسي، وفي مقدمتها حزب النهضة، وقلب تونس، وحتى الزعماء السياسيين الذين كانوا يحملون إرث الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، ومن بعده الرئيس السابق الباجي قايد السبسي.
إذن الرئيس قيس سعيد ثمرة لصناديق الاقتراع، في انتخابات حظيت بمراقبة العالم وإعجابه، وحين فاز سعيد بشكل كاسح سمع قصائد المديح من النهضة قبل كل الشركاء الحاليين في السلطة بمواقفه، وبالتالي فهو لم يأتِ على ظهر دبابة، ولا يمكن المزايدة عليه أو الطعن بشرعيته.
في كل الأحوال صدى قرارات قيس سعيد لا يزال يخلط الأوراق، وربما يكون أهمها وأبرزها، كيف استطاع رئيس جمهورية أن يُقنع قادة الجيش والأجهزة الأمنية أن يكونوا إلى صفه، حلفاء له في مغامرة خطيرة؟ وهل أخذ الرئيس قبل استحواذه على السلطة الضوء الأخضر من قادة دول العالم لمساندته، أو السكوت وعدم التدخل، والانتظار حتى يظهر الدخان الأبيض من قصر قرطاج؟
في الداخل التونسي عارضت معظم الأحزاب قرارات رئيس الجمهورية؛ فالنهضة التي تملك الحصة الأكبر في البرلمان وصفته بالانقلاب، وكتلة قلب تونس الثانية بالقوة البرلمانية اعتبرته خرقا للدستور. وكتلة التيار الديمقراطي، وكذا الأمر ائتلاف الكرامة.. رفضاها.
ورغم أهمية الأحزاب في المعادلة السياسية الداخلية بتونس إلا أن الاتحاد العام للشغل يعبر عن الثقل الشعبي، وموقفه أعطى شرعية ومبررا لقرارات رئيس الجمهورية، حين اعتبر أن "الأزمة بلغت أقصاها، ووصلت حد تعطل دواليب الدولة، وتفكك أوصارها وأجهزتها، وأن تردي الوضعين الاجتماعي والاقتصادي، وتعمّق معاناة الشعب، وتزايد الفوارق بين الفئات والجهات، وتفشي الفساد، ونهب المال العام، واستشراء مظاهر المروق على القانون وخرقه بالغلبة طوعا، وبتطويع التشريعات والأجهزة، ومنها القضاء، طورا آخر لصالح لوبيات متنفّذة وأطراف استباحت الحقوق والبلاد، ورهنتها في سياسة تداينيّة خطيرة فرّطت في السيادة الوطنية، وقد حان الوقت لتحميل المسؤوليات وإنهاء هذه الحقبة التي وضعت تونس على صفيح من نار".
وإذ أعطى الاتحاد العام للشغل سياقا لهذه التدابير الاستثنائية فإنه اشترط أن يرافق القرارات التي اتّخذها الرئيس الضمانات الدستورية بضبطها بعيدا عن التوسّع والاجتهاد، والإسراع بإنهائها حتّى لا تتحوّل إلى إجراء دائم، وضمان احترام الحقوق والحريات.
الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، المؤسسة التي صمدت إبان حكم بن علي، ولم تخضع، أكدت بأنها ستبذل جهدها للدفاع عن الحقوق والحريات، واستقلال القضاء، واحترام دولة القانون ضد مخاطر الانزلاق نحو الديكتاتورية، محذرة من أن تجميع السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) بيد الرئيس يثير جملة من المحاذير، مبينة أن تأويل رئيس الجمهورية للفصل (80) فيه بعض التجاوز، لاسيما ما يتعلق بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب.
ورأت الرابطة على لسان رئيسها أن سعيد استمد شرعية تلك الإجراءات الاستثنائية المعلنة من الفشل الذريع في إدارة البلاد على جميع المستويات طيلة 10 سنوات من سقوط النظام السابق في 2011.
المجتمع الدولي الذي اتجهت له الأنظار لمعرفة إن كانت إجراءات رئيس الجمهورية قفزة في الهواء، قالت كلاما خجولا، فهو لم يوصد الأبواب أمام تدابير الرئيس التونسي، لكنه لم يتركها مشرعة دون ضوابط، فالأمم المتحدة طالبت بحل النزاعات والخلافات عن طريق الحوار والامتناع عن العنف، والبيت الأبيض -وهو الأهم- لم يحدد ما إذا كان ما حدث انقلابا، وفرنسا اكتفت بالدعوة لاحترام سيادة القانون وعودة النظام الديمقراطي، والاتحاد الأوروبي يدعو لاحترام الدستور، والجامعة العربية تحث على سرعة اجتياز المرحلة المضطربة.. الخلاصة أن المجتمع الدولي لم يرفض تدابير الرئيس، وإن طغى على الخطاب الحذر والترقب.
المخاوف تسود، وإن كان رئيس الوزراء هشام المشيشي سلّم بالأمر الواقع، وتعهد بتسليم المسؤولية لأي شخص يختاره الرئيس، وعزا الصعوبات التي واجهت الحكومة إلى المنظومة السياسية المتشنجة والفاشلة على حد وصفه.
وأيضا حركة النهضة دعت جمهورها إلى الهدوء، ونفت منع زعيمها الغنوشي من السفر، أو أنه قيد الإقامة الجبرية، إلا أن الأمر لم ينتهِ، والأزمة لم تطوق، والفرقاء لم يرفعوا بعد الراية البيضاء تسليما بقدر الرئيس قيس سعيد.
سيناريوهات ما بعد التدابير الاستثنائية لا تنتهي، بعضها متشائم يربط ما جرى بانقلاب يقوده رئيس الجمهورية بالتنسيق مع الدول المضادة لثورات "الربيع العربي"، التي سعت وعملت وراهنت على إجهاض آخر تجربة ديمقراطية في العالم العربي، ويستحضرون مآلات الوضع اليمني والليبي والسوري، ويسلطون الضوء أكثر على ما حدث في مصر، وهي مقاربة لا تجد قبولا، ويستذكرون أن الجيش التونسي مختلف، وكان حاضنا للثورة، ولم يدخل في لعبة التجاذبات السياسية.
أما السيناريو الأكثر تشاؤما، والأكثر مدعاة للقلق، استحضار التجربة الجزائرية وعشرية الدم، والحرب الأهلية التي نخرت البلاد.
تونس مقبلة على ولادة من الخاصرة، ومخاض صعب؛ فالرئيس الذي يحظى بتأييد شعبي لم يكن قبل فوزه شخصية سياسية معروفة، وحاضرة، وهو الآن يحكم قبضته على السلطة، والسؤال المصيري هل سيعود إلى الاحتكام للدستور، وقواعد اللعبة الديمقراطية، فيخرج بتسوية سياسية بعد شهر من قراراته وتدابيره الاستثنائية، ويُعين رئيسا للوزراء قادرا على كسر حلقة الاستعصاء؟ هل يُعيد البرلمان للعمل بعد 30 يوما؟ فيُنهي حالة التصعيد والمكاسرة السياسية، وهل تتحرك منظمات المجتمع المدني على غرار الاتحاد العام للشغل، "القوة الوازنة" التي أنقذت البلاد في "مرحلة الاغتيالات"، وقدمت حلولا توافقية أبقت تونس على سكة المسار الديمقراطي.
ما هي السيناريوهات الممكنة في ظل هذه الأزمة العاصفة؟ هل سيكون الحل والمخرج بانتخابات مبكرة، وحكومة تصريف أعمال يختارها الرئيس كمخرج؟ أم يجنح سعيد للحكم منفردا، فيقلب الطاولة على الجميع، وينقلب على قواعد الحكم الديمقراطي، ويلجأ إلى تقييد الحقوق والحريات، ويفتح الباب للمساءلة والملاحقة على قضايا قد يُشتم منها رائحة انتقام، أو السعي للاتهام وحرق الصورة، والتجييش الشعبي، وبذلك ينقلب على قواعد الحكم الدستوري؟
وربما السيناريو الآخر، والأخير، أن يتدخل الجيش للسيطرة على الوضع المتفجر والمحتقن؛ فيعزل الجميع، ويفرض الأمر الواقع، ويبحث عن تفاهمات جديدة، قد يكون في مقدمتها تعديلات دستورية تُغير طابع نظام الحكم.
قلبي على تونس التي أحبها، وأقف مع الديمقراطية، وضد الانقلاب عليها، وسأبقى مع خيارات الشعب التونسي، وسأظل في كل وقت ضد الاستبداد.