مهدي مبارك عبد الله - لا يختلف إتنان على ان تواجد القوات العسكرية الامريكية في منطقة الشرق الاوسط يعتبر السبب الابرز للكوارث والمآسي التي حلت وتحل بشعوبها ولن تذوق هذه الشعوب طعم الراحة والامان والاستقرار الا بانسحاب او طرد هذه القوات المحتلة من كل بلد تتواجد فيه بعدما نهبت الثروات وسرقت المقدرات واستعبدت الامم والشعوب
ومما لا شك فيه أن واقع الانتصارات المتوالية لحركة طالبان مؤخرا وسقوط المدن واحدة تلو الأخرى والتي توجت أخيراً بدخول العاصمة كابول دون مواجهات او إراقة للدماء قد أذهل العالم كله وجعله في حيرة من أمر هذه الحركة التقليدية القبلية التي كان البعض يتخذونها سخريا وينعتون مقاتليها بالتخلف والرجعية وأنهم لا يزالون يعيشون في العصر الحجري في كهوف الجبال ويلبسون الجلاليب الممزقة والشباشب المقطعة لكن ها هم ثوار الطالبان الابطال يقدمون اليوم بصبرهم وصمودهم وشجاعتهم الدرس الأفغاني المؤلم لأصحاب ( الرهانات الخاسرة على امريكا والأمريكان )
المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية ( جون كيربي ) في تصريحاته المتكررة رفض المقارنة بين رحيل الدبلوماسيين والرعايا والعملاء الأميركيين من أفغانستان تحت الحماية العسكرية مع الانسحاب بعد الهزيمة في فيتنام عام 1975 وسقوط سايغون إلا أن الصورة الحقيقية المفجعة فرضت نفسها بتفاصيلها الدقيقة وعلى رأسها مشاهد فوضى وتزاحم الفارين حول طائرات الإجلاء وتخلي أمريكا عن حلفائها والمتعاونين معها وترك المئات منهم يتعلقون بعجلات الطائرات العسكرية ويتساقطون من سلالمها وابوابها ليلاقوا مصائرهم الغامضة التي يستحقونها وفي ثنايا المشهد التاريخي الافغاني الأكثر عارا وخزيا ومذلة مما حصل في فيتنام وبما يعبر بصدق عن حقيقة أمريكا الشيطانية ونواياها الخبيثة وبحثها عن مصالحها اولا بغض النظر عن حياة الاخرين
ورغم تباين الملفين الفيتنامي والأفغاني واختلاف الحدثين لكن يبقى الجوهر مشتركا من حيث الخيانة الأمريكية للحلفاء ومن يقدمون الدعم للاحتلال وللهيمنة على حساب استقلال وكرامة أوطانهم فبينما كان آخر جنود مشاة البحرية الأمريكية يخلي السفارة الامريكية على متن مروحية غمر المدنيون الافغان محيط السفارة وتدفقوا إلى أرضها من كل حدب وصوب جلهم من الذين تم توظيف الكثير منهم كعملاء ومرتزقة واستثمرت خيانتهم لبلادهم ثم تركوا من قبل الاميركيين عقب هروبهم وبعد انتفاء الحاجة اليهم فريسة للمطاردة والاعتقال والانتقام والتصفية وهو جزء مما حدث في افغانستان وقابل للتكرار في اي بلد عربي او اسلامي اخر
الصورة الحية كانت تنقل بالتفاصيل ذل وازدراء ومهانة العملاء على أعتاب مَن استخدمهم لسنين طويلة وتخلى عنهم على جناح السرعة فالمشهد نفسه رأيناه موثقا من ذي قبل في ڤيتنام يوم أجلت أميركا رعاياها وتخلت عمن باعوها عقولهم وقدراتهم وضمائرهم عند اول مفترق للهروب وكذلك تابعناه بشكل اوضح في يوم تحرير الجنوب اللبناني عام ٢٠٠٠ يوم وقف عملاء ( جيش جنوب لبنان ) في طوابير طويلة بعدما أقفلت بوجوههم بوابات الحدود مع اسرائيل وهم يستصرخون أسيادهم النجاة والعبور
لقد ان الاوان إن يعي الامريكان بان الحقبة المصطنعة لما اسموه ( الحرب على الإرهاب ) والتي كانت مجرد تأكيد ( للقطبية الأمريكية الواحدة ) قد انتهت بلا رجعة وهو ما يعني انتهاء امريكا كـ ( قطب أوحد ) رغم بقائها كقوة عظمى مهيمنة وأيا كان الأمر فهو في الحالتين يعبر عن استمرار خذلان امريكا لحلفائها وانتهاء أدبيات واستراتيجيات القطبية الواحدة
والسؤال هنا هل استوعبت بعض الأنظمة العربية التابعة والقوى السياسية العميلة لأمريكا في كافة البلدان هذه الحقيقة تحديدا في واقع المشهد الافغاني بكل تفاصيله الحافل بالعِبر والدروس لمن شاء التعلم من تجارب الآخرين وبما يمثله من مصداقية عالية للأسلوب التقليدي والمتكرر في كيفية تعاطي امريكا مع البلدان التي تناصرها وتدور في فلكها وهي فرصة مناسبة لمعرغة اهمية ومكان هذه الأدواتهم الرخيصة عند امريكا
وهل تدرك واشنطن أن هناك حدودا لقوة النيران والغلبة وأنه لا يمكن للقوة العسكرية وحدها أن تحسم الصراع في عالم متغير لم يعد فيه احتلال دول أخرى ممكنا عن طريق الجيوش وان الرغبة الامريكية الجامحة بالتمدد الاستعماري وتكراره في بلاد مختلفة دون الاستفادة من الدروس الماضية سواء في فيتنام او غيرها بأنهم لن يستطيعوا الاستمرار في احتلال دول تبعد آلاف الأميال من وطنهم فضلا عن عجزهم في مواجهة محاربين مدفوعين بـ ( أيديولوجيًا مقدسة ومتجذرين في مجتمعهم ) وينظرون للقوات الامريكية كقوة احتلال ينبغي دحرها وهزيمتها تحت وطأة المقاومة والتضحيات والصمود
افغانستان تلك البلاد التي لا نعلم عنها ما يكفي لبناء موقف واضح حول تفاصيل أحداثها ولكننا نعلم كفايتنا مما ارتكبه الأميركيون من مجازر وجرائم فيها كي نكرر موقفنا المبدئي بأن نعادي كل ما يقف من مع أميركا ونبتسم بحرارة لكل فعل أو جهة تؤلمها وبغض النظر عن الموقف من حركة طالبان والتي حيكت حولها الكثير من المعلومات المغلوطة وغير المثبتة بل وغير الواقعية والتي بعضها فبرك في ( المعامل الأميركية ) لا نتاج الدعاية السياسية المضللة
لقد شاهد العالم قاطبة ( المتأمركين الأفغان ) ممن سموا بالمجتمع المدني ( يبدو أنّها تسمية باتت معتمدة عالميًا لتحقيق غايات مبيتة ) وهم يتسلقوا حواف الطائرة ويزحفوا على سلمها عسى ان يحملهم جناحها إلى فرصة للهروب ويلتحقوا بزملائهم الذين تمّ تكديسهم في حجرات الشحن لكن الطائرة تابعت مسيرها وكأن ( فرقة مرتزقة وايتام أميركا المدنية ) في أفغانستان سلعة انتهت مدة صلاحية واستخدامها فرميت في زاوية المهملات وتركت لمصيرها في مواجهة أهل البلد الذين بلا شك لديهم ما يقولونه لهؤلاء العملاء الجبناء أو ما يفعلونه بهم لا سيما بالنظر إلى موقفهم الأخير وهو السعي للحاق بالأميركي المحتل بدلًا من صحوة ( ضمير تعيد فيهم القلب والعقل ) إلى مجراهما الوطني والقومي والانساني
بعد سيطرة طالبان على افغانستان بسرعة قياسية وهروب الجيش والشرطة والقوات الامنية الافغانية التي انفقت عليها امريكا 100 مليار دولار وانسحاب القوات الامريكية وقوات الناتو من افغانستان وهروب الالاف من الافغان المتعاونين مع امريكا من افغانستان على مطار كابول مذعورين كالجرذان دون ان يجدوا ملجأ يضمهم ولا سبيل للخروج من افغانستان باي وسيلة عاجلة
الدروس مما حدث في افغانستان كثيرة اولها ان ( المتغطي بالأمريكان عريان ) ورغم ان هذا الدرس ليس بالجديد الا انه تم تأكيده وتثبيته في الدرس الافغاني الذي استمر اكثر من 20 عام ثم في لحظة هزيمة سريعة باعت امريكا كل الافغان الذين تعاونوا معها وفتحوا لها ابوابهم حتى انها مؤخرا امتنعت عن نقل المترجمين الافغان معها الى امريكا وحاولت ايجاد مأوى لهم في دول صديقة مجاورة بل وانها اطلقت النار على الافغان الذين ارادوا الصعود مع الأمريكيين في الطائرات في مطار كابول وقتلت عددا منهم مما يزيد التأكيد على انه ( لا يمكن الاعتداد بالأميركي كدولة راعية او حامية في أي مكان في العالم )
اضف الى ذلك ان كل الاحلام الوردية التي رسمتها امريكا للشعب الافغاني من انها ستجلب لهم الرفاهية والديمقراطية والحرية في حال غزت هذا البلد لم تتبخر فحسب بل ان امريكا تركت افغانستان وهي على شفى الدولة الفاشلة ووسط فوهة بركان الحرب الداخلية في حالة فوضى وجوع ودمار اقتصادي وتهديد خطير بانهيار وانقسام البلاد
لقد بات بحكم المؤكد ان امريكا لم ولن تكن تفكر في استتباب الامن في اي بلد عربي او اسلامي غزته او احتلته او تدخلت في شؤونه بل على العكس تماما هي التي كانت ومازالت تسعى لضرب كل عناصر القوة في هذه البلدان التي ترى فيها تهديدا لـكيان اسرائيل وخطرا داهم على اطماعها ومصالحها غير المشروعة لتبقى هذه الدول فقيرة ومتخلفة وبحاجة الى امريكا على الدوام
وحتى لا تتكرر مأساة الشعب الافغاني للشعوب الاخرى كالشعب العراقي والسوري واللبناني واليمني والليبي والصومالي وغيرهم ممن مازال بعضهم يربطون مصير بلدانهم وشعوبهم بأمريكا ويعتبرونها الباب الذي سيدخلون منه الى المستقبل الزاهر والباهر تماما كما كان يطبل المغرضون والمغرر بهم من الافغان على مدى 20 عام خلت فعليهم اليوم ان يعلموا جيدا ان السياسة الأميركية في حقيتها هشة وضعيفة وغير أخلاقية وأن مؤامراتها ومشاريعها انكشفت وفضحت وفشلت
خلاصة القول ومن واقع الأحداث والشواهد المفزعة نرى أن الكثير لم يستوعبوا الأمر بعد بان أميركا لن تستطيع النيل من ( إرادة الشعب المقاوم وان المتلحف بالأمريكان بردان ) وليس الان المطلوب من متابعة حيثيات المشهد في أفغانستان أكثر من الاعتبار بما فيه من رسالة إلى كل القذروات البشرية من ( عبيد وأدوات أميركا ) ان هذا ما ستفعله بكم في نهاية المطاف وتلك هي نهايتكم معها وان ما جرى في أفغانستان هو درس مبدئي لجميع شعوب المنطقة والعالم ينبغي استيعابه جيدا
وفي الخاتمة ها هي الولايات المتحدة الأمريكية الدولة العظمى في العالم تتجرع كأس الهزيمة المر على أيدي مقاتلي طالبان الاشداء وتنسحب من بلادهم محملة بإرث الخزي والعار بعد عشرين عام من احتلالها ولنتذكر اليوم بفهم ووعي ما قاله الأمير الافغاني الحديدي ( عبد الرحمن خان 1880 إلى 1901 ) الذي اشتهر بتوحيد بلاد افغانستان بعد سنوات دامية من الاقتتال الداخلي حيث كان يقول دائما انه ( من السهل احتلال أفغانستان ولكن من الصعب المحافظة عليها ) وان افغانستان مقبرة الامبراطوريات وها هي الأحداث والأيام تؤكد لنا صدق حدسه وكلامه
mahdimubarak@gmail.com
.
.