مهدي مبارك عبد الله - صادف يوم الثلاثاء 14 / 9 / 2021 الذكرى الـ 28 لتوقيع اتفاقية أوسلو سيئة الذكر المعروفة باتفاقية إعلان المبادئ والموقعة في مدينة أوسلو عاصمة مملكة النرويج بتاريخ 13 / 9 / 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية أمريكية منحازة ومشبوهة حيث لم يكن في نظر البعض من الفلسطينيين ان اوسلو هو مجرد اتفاق مرحلي وإنما وجدو فيه ( مؤامرة ونهاية مؤلمة ) لمرحلة مشرقة من تاريخ الكفاح والنضال الوطني الفلسطيني بكل اشكاله
الاتفاق كان يفترض ان يكون عند توقيعه اتفاق مبادئ مرحليًا لخمس سنوات حيث لا زال منذ عام 1993 يراوح مكانة في حالة تراجع وفقدان للثقة تزداد يوما بعد يوم خاصة وان جميع اللقاءات وبروتوكولات التعاون والتفاهم والمفاوضات السياسية بين الطرفين لم تفضِ إلى حل للقضية الفلسطينية في اقل مضامينها ومتطلباتها بل على العكس ظهرت بعده في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية تطورات معقدة فاقمت الجفوة و صعدت الخلافات وكرست الكراهية والعنف
البيئة العالمية التي ولد فيها الاتفاق وترعرع كانت صعبة حيث شهدت أوضاع جديدة وتغير في كبير موازين القوى الدولية خاصة في أعقاب سقوط وانهيار الاتحاد السوفييتي كما حدث انقسام واسع في الموقف العربي إزاء الاحتلال العراقي للكويت وتأييد منظمة التحرير للموقف العربي وما نتج عن ذلك من تداعيات ادت الى فرض حصار اقتصادي وسياسي على منظمة التحرير بسبب موقفها من الأزمة بين البلدين ( الكويت والعراق )
اليوم مع هذه الذكرى المشؤومة نتسأل بكل صراحة وموضوعية ماذا جنى وكسب الشعب الفلسطيني من هذا الاتفاق الذي هللت وطبلت له العديد من الأبواق الإعلامية في حينه ونفخت فيه الافواه وبالغت وكأنه ( التحرير المؤزر ) ناهيك عن الأقلام المأجورة والعقليات التافهة التي انبرت تناضل دونه وتصر على جعله الفتح الاعظم
هل تحققت أماني وتطلعات الاشقاء الفلسطينيين بعد كل هذه الدوامة ونالوا مطالبهم المشروعة في الحرية والاستقلال واصبحوا شعبا حرا ومعترفا به على كل المستويات الاقليمية والعالمية ام هل عاد ملايين المشردين واللاجئين من كل اقطار الارض وهل خرج الأسرى من ظلام الأقبية والزنازين في سجون الاحتلال وهل رحلت إسرائيل عن البحر والبر والجو واصبح الفلسطينيون يتنفسون هواء وطنهم العليل وينعمون بالأمن والطمأنينة والرخاء الاقتصادي والعيش الرغيد
الحقيقة التي هي كعين الشمس والتي لا يريد البعض ان يسمعها او حتى يصدقها ان اتفاق أوسلو جاء في المحصلة تتويجًا لجهود الإدارة الامريكية في المنطقة ومخططاتها السرية مع تل ابيب لاحتواء الحركة الوطنية الفلسطينية وجذب القوى اليمينية الفلسطينية داخل منظمة التحرير للتسليم بالرؤية الإسرائيلية والأمريكية في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دون أي اعتبار لحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية في احتلال ارضه وتشريده وقتل واعتقال خيرة ابنائه على مدى سنوات طويلة اضافة الى المساهمة الحيوية في التمزق الداخلي وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة
جميعنا نتذكر جيدا يوم كانت العديد من فصائل المقاومة الفلسطينية تعارض مشروع ( الحكم الذاتي والإدارة المدنية ) وكل بنود هذا الاتفاق حين اعتبرت ان مشروع الاتفاق وملحقاته ليس إلا انصياع اجباري للرؤية الأمريكية الاسرائيلية التي تجسدت في النهاية بحصر الحل عبر فكرة الحكم الإداري الذاتي الهزيل المنزوع السلاح والمسلوب الارادة والعاجز عن حماية نفسه او تقديم الخدمات الاساسية وهو محاصر بالحواجز الأمنية والبؤر الاستيطانية مع كل حدب وصوب والذي لا يمثل الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية المطلوبة ولا يساوي قطرة دم من جسد شهيد او زفرة قهر من قلب اسير او لوعة ام على فقد ولدها او زوجها
ان اخطر نتائج اتفاق أوسلو ما تجلى على أرض الواقع بمنح الشرعية لوجود الاحتلال دون اشتراط شرعية مقابلة لدولة فلسطينية وما ترتب عنه من امتداد مساحات المستوطنات وسلب الأرض والوطن وتشكل سلطة فلسطينية ( حارسة على الأمن الإسرائيلي ) كما انه اصبح مرجعية للدول العربية التي سارت نحو نهج التطبيع ( الامارات والبحرين والسودان والمغرب ) باعتبار ان الفلسطينيين ( هم انفسهم طبعوا مع اسرائيل ولهم علاقات مباشرة معها منذ زمن بعيد فلماذا يلوموها ويعترضوا عليها )
في هذا السياق يعتبر العديد من المحللين السياسيين ان اتفاق اسلو تضمن الكثير من محطات الافراط والتفريط وان اندلاع لهيب انتفاضة القدس والأقصى عام 2000 كان بمثابة النهاية لمساره التفاوضي على اثر وصول العملية السياسية السلمية برمتها الى طريق مسدود بعد سعي اليمين الإسرائيلي لتعطيل عملية السلام والتنكر لجل مبادئ الاتفاق مستغلة العمليات التفجيرية والانتحارية التي كانت تقوم بها بعض قوى المقاومة الفلسطينية داخل إسرائيل
ومع صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف لسدة الحكم بعد اغتيال اسحق رابين اغلقت كافة افاق التسوية وقد حاول الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات استثمار انتفاضة الأقصى ودعمها بالمال والسلاح للضغط على إسرائيل خاصة بعد زيارة المجرم شارون للمسجد الأقصى والناظر إلى الوراء قليلا اليوم يرى أن خطورة اتفاق أوسلو انها حملت ابعادًا مستقبلية تعدت ما يمكن ان يسجل على الجانب الفلسطيني بما قدمه من تنازلات فقط بل ان فيه جملة أبعادًا تمس صميم الامن العربي وتجرح شرف الانتساب الفلسطيني للأمة العربية والولاء لها وعليه يمكن اعتبار الاتفاق ( خطيئة سياسية ) كبيرة لا زال الشعب الفلسطيني يدفع ثمنها منذ 28عام بكل الم ومرارة
السلطة الفلسطينية بوضعها الحالي لم تعد قادرة على تمثيل الشعب الفلسطيني وحمل طموحاته وتحقيق حلمه بالحرية والاستقلال خاصة بعدما اصبحت تتسلط على الشعب وتقمع معارضيها وتزج بهم في السجون والمعتقلات ( تماما كما يفعل الاحتلال ) وبذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخرج القضية الفلسطينية من مأزقها الراهن ومن خطر حدوث نكبات جديدة لاحقة وعليه يتوجب على القيادة الفلسطينية نفض يديها من هذا الاتفاق وإلغائه بالكامل كونه لم يحقق أي شيء للفلسطينيين سوى التوسيع الاستيطاني وتكريس الاحتلال وكذلك ضرورة العودة لبناء منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها من جديد على أسس سليمة وثابتة واستعادة اللحمة الوطنية والعودة لمسار المقاومة والتحرير
الكثير من الفلسطينيين المتعبين والصادقين يقولون بحرقة وسخرية بالغة ( ربما حصلنا من اوسلو على ملامح وطن غاب ) بين زحمة اصحاب الكراسي وصفوف الزعامة المترفة والسيادة الوهمية وأرتال الوزراء وضباط الالوية والمديرين العامين واليافطات الدعائية الكاذبة المعلقة هنا وهناك باسم ( وطن مفترض أكلت ثراه الجرافات الإسرائيلية واحتواه جدار الضم والتهمته مخططات التوسع ) ليصحوا من احلامهم على مزيد من البؤس والحرمان والتشرد والتشرذم والانقسام واستشراء الفقر والجوع والمعاناة لشعب مثخن بالجراح نخر في عظامه سوس الفساد وسوء الادارة ليبقى يعيش على الإعالات الدولية واستجداء أبسط الحقوق الاقتصادية والسياسية والمدنية والانسانية
الواقع المرير اثبت لنا ان الوطن الفلسطيني المحرر والمستقل الذي ننشده ضاع في سرداب و متاهات ومخرجات اوسلو المأساة تلك ( المسرحية العبثية سيئة الإعداد والإخراج والسيناريو ) التي فرض علي الفلسطينيين عيشها قبل مشاهدتها ولقد اصبح الوطن بعد اوسلو مجرد صورة زعيم وخريطة تعلق على الجدار في المؤسسات والدكاكين الوطنية وصار الخلاف قاعدة السياسة الفلسطينية اليومية والاتفاق على التنافر والتناحر والتناقص والاقتتال هو العنوان الاوضح لمستقبل هذا الوطن المغلوب والمقهور والمذبوح من الوريد إلى الشريان
في ثنايا اوسلو المؤامرة وفوق جدرانه وعبر اسلاكه ومتاريس اسواره اصبح ( ما يسمى بالوطن ) مستباح حيث تقف دبابات العدو وجنوده والمستعربين تحت شبابيك دار المقاطعة في رام الله ويعتقلون ويطاردون ويحاصرون ويهدمون البيوت ويخربون الاشجار والمزارع والسلطة الفلسطينية لا تحرك ساكن وكان الامر لا يعنيها ولايزال التنسيق الامني لدى رئيسها شرف والتزام مقدس
قضية الاسرى الذين يتراوح عددهم بين 4600 و 4700 أسير، بينهم 40 امرأة و 200 طفل وأكثر من 500 معتقل إداري خلت اتفاقية أوسلو من أي ذكر لها ولهذا اضحت من القضايا الفرعية والهامشية وقد تدهور وعي السلطة واجهزتها في التعامل معهم إلى الدرك الأسفل وأصحاب السيادة والمعالي والعطوفة والسعادة غارقون فيما هم غارقون فيه والأسرى تتكثف العتمة حولهم والتنكيل والتعذيب يطالهم كل دقيقة والاحتلال يستفرد بهم ولا يريد أحد هناك من هؤلاء رؤيتهم أو إقلاق راحتهم بأخبارهم دون استخلاص أي من النتائج والعبر
ما دامت العقلية السياسية اللاهثة وراء وهم اوسلو هيَ ذاتها تتصدر المشهد وتقود السفينة لن يجني الشعب الفلسطيني ( العنب من الحنظل ) وستبقى ذاكرته الجمعية مثقلة بأعباء التاريخ وأوجاعه تذكره بليل البؤس الفلسطيني الطويل القادم والمرشح للاسوا بعدما تجرأت العناصر الأمنية الفلسطينية على الدم الفلسطيني في حادثة قتل الشهيد نزار بنات وغيره كما تجرأ السياسيون من قبل على المقامرة بمصير وحقوق الشعب الذي أصبح مرتهناً لمستقبل بلا ملامح وربما دون وجود
لقد فقد الفلسطينيون كثيرا بفعل أوسلو وقد اصبح من حقهم كمتضررين من تبعات هذا الاتفاق النجس وإفرازاته العقيمة أن يصفوه بانه كان أكثر شرا ووبالا من النكبة و النكسة ومن كل الحروب التي هزموا فيها نتيجة سوء التخطيط وعبثية التنفيذ وعدم الفهم والاهتمام
مرة ثانية ماذا استفاد الفلسطينيون من أوسلو الماساة غير تجذير سيطرة الدولة العميقة لأجهزة السلطة الفلسطينية التي صارت مرتعا خصبا لمكاسب ومصالح المسؤولين وأبنائهم وكل الامتيازات والارباح تصب في جيوبهم لكن الشعب وأبناءه لا شيء لهم سوى الفقر والعوَز والسجن والتشريد والتهميش والملاحقة والقتل على ابسط التهم والمبررات
هذا هو أوسلو يإ سادة ولا شيء آخر وبدون تدليس او تزويق ومن غير مساحيق المهرجين الوطنيين الذي وضعوا شعب فلسطين بين فكيه وانيابه ليجثم على صدورهم وارواحهم وبيوتهم وطرقاتهم وحياتهم ومستقبل اجيالهم 28عام قابلة للتجديد والتمديد بقوانين والتزامات متجبرة تحاصرهم وتقتلهم في كل يوم الف مرة إنه حقال نكبة وطنية لا علاج لها وسدا منيعا يحول دون الخلاص من الاحتلال واذنابه ليبقى الاتفاق مجرد تجربة سياسية تقطعت بها السبل قبل أن تثمر فلا مرحبا ولا اهلا بك يا اوسلو
mahdimubarak@gmail.com