الإسلام الحنيف رسالة إنسانية فهي أولاً للإنسانية كلها، وليس حكراً على جنسٍ ما، أو طائفةٍ ما، بل هي رسالة لإصلاح البشرية كلها، والنهوض بها إلى مراقي الفلاح والخير والسلام، وإخراجها من ظلمات الجاهلية والجهل، إلى نور العلم والمعرفة.
ولذا فإن الإنسانية كلها مدعوة إلى الإسلام، والانتفاع به، والعمل بأحكامه ومبادئه، فالإسلام بذلك يرحب بكل إنسان يُقْبِل عليه، لأنه دين الله –تعالى- الذي أنزله على نبيه –صلى الله عليه وسلم- رحمة بالإنسانية، وتحقيقاً لمصالحها في الدنيا والآخرة.
قال الله –تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾( ).
إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة الله –تعالى- الذي خلقهم والذين من قبلهم، والاستسلام لأمره وحكمه. وهذا هو الإسلام.
وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾( ).
فالإسلام جاء لخير الإنسانية، ورحمة بالإنسانية كلها، جاء للناس كافة ليأخذ بأيديهم إلى الهدى ويحقق لهم الأمن والأمان، والعدل والسلام، جاء الإسلام لينادي بإنسانية واحدة تذوب فيها الفوارق الجغرافية لتلتقي في عقيدة واحدة، ونظام اجتماعي واحد، من أجل النهوض بها والعمل على تقدمها.
هذا أولاً، وأما ثانياً فإن الإسلام رسالة إنسانية، تُعنى بالإنسان، وتحترم عقله وإرادته، وتكرّمه على سائر المخلوقات.
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾( ).
وهذا إخبار من الله –تعالى- وإعلان بتكريم الإنسان بجميع وجوه الإكرام، حيث كرّم الإنسان بالعلم والعقل وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وجعل منهم الأولياء والأصفياء والصالحين والعلماء، وأنعم عليهم بالنعم المتواردة، الظاهرة والباطنة.
والتكريم في الإسلام للإنسان ليس قائماً على لونٍ أو جنس أو دين فهو تكريم عام لجميع الناس، ذلك أن الإسلام رسالة إنسانية ليست حكراً على أحد أو طائفة.
ومن الفوائد –في هذا المقام- أن كلمة (الناس) قد وردت في القرآن الكريم أكثر من (240) مرّة. وأن كلمة (الإنسان) وردت (65) مرّة، وكلمة (العالمين) وردت أكثر من (70) مرّة.
والحاصل أن إنسانية الإسلام تبدو من خلال حرص الشريعة الإسلامية وتأكيدها على مجموعة من القضايا المهمة وهي ما يلي:
1. وحدة الجنس البشري وأن أصل الناس واحد.
2. إلغاء جميع الفوارق القائمة ين الناس على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو النوع أو البلد أو ما شابه ذلك.
3. إلغاء نظام الطبقات المقيت والتأكيد على تساوي الجميع في الحقوق والواجبات.
4. الاستقامة وحسن الأداء والتعامل، وإتقان العمل والتفاني في خدمة المجتمع هي الأسس المؤثرة في التفاضل بين البشر.
5. مبادئ الإسلام العظيمة في المرأة وتكريمها، والحفاظ عليها، والدعوة إلى إنصافها وتفهم مشاكلها وظروفها.
6. رعاية المسنين في الإسلام، والتأكيد على حقهم في الحياة الكريمة وبذل المساعدة لهم.
7. رعاية الفقراء في الإسلام، وتفقدهم وبذل المساعدة والعون لهم.
8. رعاية المرضى في الإسلام، ومراعاة أحوالهم، وتأمين ما يحتاجونه من علاج ودواء.
9. حقوق الأطفال، والحرص على تربيتهم التربية الصالحة الإيجابية التي تعود بالخير عليهم وعلى مجتمعهم.
10. الوصاية بالجار، والتأكيد على حقوقه، والعمل على الإحسان إليه، ولو كان من غير المسلمين.
11. حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، والتأكيد على حفظ حقوقهم، والإحسان إليهم، ومشاركتهم في كل ما فيه خير الإنسانية.
12. الأمر بالعدل مع جميع الناس، والتحذير من الظلم والاضطهاد للآخرين.
13. التأكيد على حق جميع الشعوب بالسلام والأمن والرفاهية.
14. بيان الإسلام للخير، وحث الإنسانية كلها على المبادئ والأخلاق الفاضلة.
15. تكريم الإسلام للإنسان، والاعتراف بوجوده وقبوله، والانتفاع بحضارته النافعة.
والإسلام كذلك رسالة سمحة سهلة، يدعو إلى السماحة واللين والسهولة والاعتدال، وينهى عن الاستعلاء في الأرض والغرور والتكبر، ويحذّر من داء العصبية والانتقام، بل يأمر بالتسامح والصفح واللين والإعراض عن الجاهلين.
قال الله –تعالى-: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾( ).
وقال الله –تعالى- في وصف عباد الرحمن الصالحين: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً﴾( ).
فعباد الرحمن، المتمسكون بالإسلام، يتخلقون بالأخلاق الحسنة، فهم متواضعون لا يتكبرون على أحد، ولا يقابلون الإساءة بالإساءة بل يتجاوزون عن المسيء ويحسنون إليه، ويتسامحون معه، ويصفحون عن زلته وإساءته.
والقرآن الكريم حكى لنا قصة العبد الصالح لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه ويعلمه حيث قال الله –تعالى- حكاية عن لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ{17} وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ{18} وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾( ).
وها هو النبي الكريم –صلوات الله وسلامه عليه- يصوِّر لنا خلق الصفح والسماحة والإعراض عن الجاهل، ولو كان معتدياً حيث أخرج البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث عائشة –رضي الله عنها- قالت: ((استأذن رهط من اليهود على رسول الله فقالوا: السام عليكم. فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله: يا عائشة إن الله عزّ وجلّ يحب الرفق في الأمر كله، قالت: ألم تسمع ما قالوا. قال: قد قلت: وعليكم)).
وفي رواية مسلم: ((يا عائشة لا تكوني فاحشة)) ( ) وفي رواية أخرى عند مسلم: ((مه، يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحّش)) ( ). وفي رواية عند البخاري: ((مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف الفحش)) ( ).
فهؤلاء الرهط من اليهود سبّوا النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك يقابل النبي ذلك بالرفق واللين والسماحة والإعراض، وينهى عائشة عن سبّهم مع أنهم معتدون.
نعم، هذه هي رسالة الإسلام، رسالة سمحة سهلة تدعو إلى الصفح والرفق في الأمر كله.
ومن سماحة الإسلام ونبي الإسلام –صلى الله عليه وسلم- ما أخرجه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث عبد الله بن مسعود قال: ((كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبياّ من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) ( ).
قال الإمام النووي –رحمه الله-: ((وهذا الذي يحكيه النبي –عليه السلام- عن نبي من الأنبياء حصل كذلك مع النبي نفسه وذلك في غزوة أحد لما شُجّ وجهه وجرى الدم منه فقال –عليه الصلاة والسلام- حينئذً: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) ( ).
ومن الدلائل –في هذا الباب- على سماحة الإسلام، ورحمته بالخلق جميعاً ما أخرجاه في (الصحيحين) من حديث أبي هريرة قال: ((جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن دوسا ً قد عصت وأبت، فادع الله عليها، فاستقبل رسول الله القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكت دوس، فقال: اللهم أهد دوساً وآت بهم)) ( ). واللفظ للبخاري.
ومن الدلائل كذلك ما ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- عندما جاءه -ملك الجبال –بعدما حصل له ما حصل في الطائف من الصدّ والأذى والضرب- فقال له –ملك الجبال-: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال رسول الله: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)) ( ).
وهذه السماحة والإنسانية في الإسلام الحنيف نابعة من أن الإسلام شريعة ربانية، وشاملة، ومتوازنة. فالإسلام هو دين الله تعالى الذي شرعه وارتضاه للبشرية كلها، أوحى به على قلب نبيه الهاشمي الأمين محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم- من فوق سبع سموات، فهو دينه الحق، وصراطه المستقيم الذي لا مخرج للإنسانية من الضياع إلا بالأخذ به، وتطبيق تعاليمه السمحة الميسرة.
قال الله –تعالى-: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾( ).
وقال الله –جلّ وعلا-: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾( ).
((إنه السلام العميق بين المؤمنين بدين الله الواحد، السائرين على شرعه الثابت، وانتفاء الخلاف والشقاق، والشعور بالقربى الوثيقة، التي تدعو إلى التعاون والتفاهم، ووصل الحاضر بالماضي، والماضي بالحاضر، والسير جملة في الطريق، وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى، ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى، وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى، وفيم يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد، وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين، ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير، والوصية الواحدة الصادرة للجميع: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ فيقيموا الدين، ويقوموا بتكاليفه ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به، ويقفوا تحت رايته صفاً، وهي راية واحدة، رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى –صلوات الله عليهم- حتى انتهت إلى محمد –صلى الله عليه وسلم- في العهد الأخير))( ).
والإسلام كذلك رسالة شاملة، لكل مناحي الحياة، تشمل كل ما فيه خير وصلاح وسعادة للإنسانية كلها، تعالج بشمولها كل ما يعترض للبشرية من مشاكل وأخطار، وهي شاملة تعطي تصورا صحيحا وكاملا عن الحياة والكون والخالق والمخلوق والدنيا والآخرة، والغيب والشهادة، ونشأة الخلق ومصيرهم.
والإسلام كذلك رسالة متوازنة معتدلة، توازن بنظام دقيق، وسر بديع، بين الدنيا والآخرة، والغيب والشهادة، والعاطفة والعقل، والروح والجسد، والعلم المادي والنص الشرعي، والعبادة والعمل، والمال والمعاملة. وتوازن كذلك في الارتباطات والعلاقات بين الفرد والمجتمع والإنسانية. كل ذلك التوازن بنظام دقيق منضبط، وسر بديع عجيب، وحكمة عالية رائقة، وتناسق واتساق فريد للغاية. فلا يطغى شيء على شيء آخر، ولا يناقض أمر أمراً. إنها شرعة الله الحكيم العدل، فتبارك الله –جل وعلا-.
ومن الأمثلة -في هذا الباب- ذلك التوافق والتوازن بين النصوص الشرعية الصحيحة –على كثرتها- وبين العقل السليم من جهة، والعلم المادي من جهة أخرى.
فلا تعارض بين ذلك البتة، فالنص يصدق العلم ويقرره، والعلم يوافق النص ويدعمه، والنص كذلك يحترم العقل ويرفعه، والعقل يستوعب النص ويقدره. وهكذا في تناسق واتساق عجيب.
وقد كتب العلماء –قديماً وحديثاً- كتباً في بيان هذا التوازن والكشف عن غوره وأسراره، ومن أبدع ذلك وأروعه كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- المسمى بـ(موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) ( ).
ومن الأمثلة كذلك، التوازن بين الفرد والمجتمع، إذ جعل الإسلام الحنيف لكل واحد منهما تجاه الآخر حقوقا، وعليه واجبات، وفلا يطغى أحدهما على الآخر،، بل اعترف الإسلام بهما، فاعتد ّ بشخصية الفرد ووجوده، وبشخصية الجماعة، فلا يلغي شخصية الفرد في شخصية الجماعة، وفي الوقت نفسه لم يطلقه فردا أنانيا جشعا لا هم له إلا ذاته ومصالحه، وإنما يطلق له من الدوافع والطاقات ما يجعله سببا في حركة ونماء مجتمعه، وفي الوقت نفسه يأمر الجماعة أن تحافظ على الفرد، وترعى مصالحه، وتمدَّ له يد العون والمساعدة إن احتاج لذلك.
هذا هو التوازن الذي قرره الإسلام الحنيف بين الفرد والمجتمع بحيث يصبح الفرد خادماً للمجتمع، والمجتمع كافلاً للفرد.