استطلاعات الرأي العام تقنية لقياس توجهات الجمهور تجاه قضايا عامة تهم الشعب، سياسية، اجتماعية ،اقتصادية، وهي أكثر انتشاراً في المجتمعات الديمقراطية ً. ارتباط قياس الرأي العام بالمجتمعات الديمقراطية مرده أنه لا يمكن قياس الرأي العام إلا حيث يوجد رأي عام حقيقي وهذا لا يكون إلا بوجود حرية التعبير عن الرأي دون خوف من متابعة أو عقاب، وهكذا نلاحظ ان استطلاعات الرأي والمراكز المتخصصة بها توجد في الدول الديمقراطية ويتناقص وجودها إلى درجة العدم كلما غابت أو تراجعت الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير.
حتى داخل الدول الديمقراطية توجه انتقادات لاستطلاعات الرأي بعضها يتعلق بعدم دقتها دائما وانتقادات أخرى تتهمها بأنها أداة للتلاعب بالعقول والتأثير على توجهات وآراء الجمهور وخصوصا قُبيل الانتخابات وانها اداة بيد الممولين والناخبين الكبار الخ. ومع ذلك لاستطلاعات الرأي العام فوائد كثيرة إن تم الالتزام بالمعايير الموضوعية، كما أنها غير مقتصرة على الجوانب السياسية بل تشمل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، وتساعد أصحاب القرار على وضع سياسات واستراتيجيات تتوافق مع رغبات وتوجهات الجمهور .
من بين دول العالم الثالث التي تعرف هذه التقنية تتميز فلسطين –مناطق السلطة الفلسطينية- بتعدد المراكز التي تقوم باستعمال هذه التقنية، ليس لأن هناك ديمقراطية متقدمة وحريات غير محدودة، بل لوجود مؤسسات مجتمع مدني متحررة نسبياً من سطوة السلطة وتتبع جهات خارجية تمول هذه المراكز ويهمها معرفة توجهات الرأي العام الفلسطيني في قضايا محل اهتمام عالمي كالمقاومة والإرهاب والسلام والتسوية السياسية والدولة وأداء الطبقة السياسية والأحزاب ومعرفة نتائج او مخرجات التمويل الذي تقدمه الدول المانحة، وحول النظام السياسي بشكل عام، أيضاً تعدد الجهات التي تجري استطلاعات رأي تابعة للأحزاب وهذه الاستطلاعات تفتقد للمصداقية غالباً.
نسبياً فإن عمل ومصداقية استطلاعات الرأي العام في الضفة الغربية أفضل مما هو في قطاع غزة حيث برزت في الضفة مراكز استطلاع مثل مركز استطلاع جامعة بير زيت والمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية ومركز العالم العربي للبحوث والتنمية(أوراد)، ولكن هذه الافضلية لا تعني أن مراكز استطلاعات الرأي ومخرجات الاستطلاعات دقيقة وصادقة، ففي كثير من الأحيان تلعب عوامل أو مؤثرات عديدة دوراً في عدم مصداقية الاستطلاعات أو عدم تمثيلها لتوجهات الرأي العام تمثيلاً صحيحاً ويعود ذلك لعدة أسباب، بعضها عامة تخص كل استطلاعات الرأي في العالم وأخرى خاصة بالحالة الفلسطينية، وأهم هذه الأسباب بشكل عام وفي في الحالة الفلسطينية خصوصاً:
1- تأثير الجهات المموِلة لمراكز استطلاعات الرأي، فهناك قاعدة تقول (ابحث عن الجهات الممولة) حيث تكون نتائج الاستطلاعات ذات المضامين السياسية محل شك إن كان المركز مرتبط بجهات رسمية أو تابعا لحزب معين أو ممَول من جهات معادية أو ذات أجندة غير وطنية.
2- فضاء الحرية المتاح في مكان إجراء الاستطلاع، غزة أو الضفة، والأمر يرتبط ايضاً بموضوع الاستطلاع فبعض القضايا المرتبطة بالدين أو بالجنس أو بالحياة الشخصية يرفض المستطلعون إبداء الرأي فيها أو يدلون بمعلومات غير صحيحة.
3- التلاعب بالعينة والتباس أسئلة الاستطلاع مما يؤدي لعدم مصداقية نتائج الاستطلاع ، والأمر قد يحدث لأن القائمين على الاستطلاع غير متخصصين في كيفية وضع الأسئلة واختيار العينة أو تقصُّد التأثير على مخرجات الاستطلاع من خلال وضع أسئلة مبهمة أو إيحائية أو التحكم في العينة كاختيار عينة من أشخاص معروفة انتماءاتهم وتوجهاتهم السياسية مسبقاً.
4- توقيت إجراء الاستطلاعات، مثلاً تلجأ بعض مراكز استطلاعات الرأي لإجراء استطلاع أثناء الصدامات المسلحة بين فصائل المقاومة في غزة وإسرائيل لقياس درجة التأييد لحركة حماس وفصائل المقاومة ونهج المقاومة أو تأييد حركة فتح والسلطة ونهج التسوية السياسية، وغالباً تكون نتائج الاستطلاع متأثرة بالحالة العاطفية والانفعالية وبجرائم الاحتلال ومشاهد القتل والتدمير في غزة وبالتالي تكون لصالح حماس ونهج المقاومة.
5- عدم استقرار الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما يؤدي لعدم ثبات نتائج استطلاعات الرأي حيث تتغير ما بين يوم وآخر ومع كل حدَث جديد، وهذا يجعلنا أمام مزاج شعبي غير مستقر ويعكس غياب الرؤية والتفكير الاستراتيجي عند الجمهور وتأثره بمجريات الأحداث اليومية.
من خلال متابعتنا لاستطلاعات الرأي في الفترة الأخيرة يمكن التوصل للخلاصات التالية بالنسبة لآراء وتوجهات غالبية المستطلَعين وما طرأ على المزاج الشعبي من تحولات:
1- ما زالوا يعتبرون إسرائيل العدو الرئيس للشعب الفلسطيني والخطر الذي يهدد امن واستقرار المنطقة.
2- يرون أن عملية التسوية السياسية التي عنوانها اتفاقية اوسلو قد فشلت وان إسرائيل لا تريد سلاما يؤدي لانسحابها من الضفة الغربية.
3- مع مبدأ وشرعية مقاومة الاحتلال ومستعدون للتضحية في سبيل الوطن ولكنهم غير متفقين على أسلوب المقاومة واستراتيجيتها.
4- تباين الانشغالات والاهتمامات العامة والمزاج العام ما بين الضفة وغزة مع زيادة الانشغال بمشاكل الحياة اليومية وبالسلم الأهلي على حساب الاهتمام بالقضايا الوطنية الكبرى، وهذا أكثر وضوحا في قطاع غزة .
5- يؤيدون المشروع الوطني وإن كانوا يختلفون حول ماهيته كما يعارضون أدواته التنفيذية ورموزه الحالية وطريقة توظيف الطبقة السياسية لهذا المشروع.
6- التباس وخلط في مفهوم الثوابت الوطنية والحقوق المشروعة والأولويات الوطنية.
7- حائرون ومنقسمون حول مفهوم وماهية الدولة الفلسطينية، هل هي دولة حل الدولتين – دولة على حدود 1967- أم الدولة حسب قرار التقسيم لعام 1947 ، أم الدولة الواحدة ما بين النهر والبحر، مع تزايد حالات القبول بدولة في قطاع غزة.
8- يريدون منظمة التحرير ويتمسكون بها كممثل شرعي ووحيد للشعب ولكنهم غير مطمئنين ولا راضين عن واقعها ويتحفظون على قيادتها الحالية واغلبيتهم لا يعرفون أسماء قيادة منظمة التحرير (اللجنة التنفيذية للمنظمة).
9- يحترمون حركة فتح ويراهنون عليها ولكنهم غير راضين عن واقع تنظيم فتح.
10- يؤيدون وجود سلطة وطنية تمهد الطريق لقيام الدولة ولكنهم غير راضين عن أداء السلطة.
11- مع الديمقراطية والتعددية السياسية ولكنهم يعارضون وغير راضين عن النظام السياسي القائم في الضفة وغزة ويشعرون بأنه بعيد عن الديمقراطية.
12- فقدوا ثقتهم بالأحزاب السياسية بكل توجهاتها ولا يرون فيها تجسيداً صحيحاً للتعددية السياسية الديمقراطية ويحملونها المسؤولية عن تردي الأوضاع .
13- تلمسهم لوجود حالات فساد في سلطتي غزة والضفة وغياب الشفافية في التوظيفات وصرف المساعدات وتزايد حالات التضييق على حرية الرأي والتعبير .
14- باتوا على قناعة بأن الانقسام صناعة إسرائيلية أصلاً ويخدم مصلحة إسرائيل، وأن حركة حماس تتحمل أيضاً مسؤولية عن الانقسام واستمراره.
15- أكثر إدراكا من أي وقت سابق بوجود طبقة أو فئات سياسية في الضفة وغزة مستفيدة من الانقسام ومعنية باستمراره وهذه الطبقة في مركز القرار السياسي.
16- تزايد حالة عدم الرضا على أداء حكومة اشتيه، ولكنهم يعارضون ويرفضون سلطة وحكم حماس في نفس الوقت.
17- بالرغم من تزايد حالة اليأس من إمكانية إنهاء الانقسام وإعادة توحيد غزة والضفة في ظل حكومة واحدة من خلال التوافق وحوارات المصالحة إلا أنهم يرون أن الانتخابات هي الطريق الوحيد لإنقاذ ما يمكن انقاذه وإعادة بناء النظام السياسي.
18- تراجع ثقتهم بالشرعية الدولية وقراراتها وان استمرار مراهنة السلطة على الأمم المتحدة ومنظماتها وعلى محكمة الجنايات الدولية فقط لن يُعيد للشعب حقوقه المشروعة.
19- يعتزون بانتمائهم القومي العربي ولكنهم يتخوفون من الأنظمة العربية ولم يعودوا يراهنون عليها لنصرة قضيتهم.
20- الحضور القوي للدين في حياة الناس ولكنهم يعارضون الجماعات الإسلامية وتوظيف الدين في السياسة.
Ibrahemibrach1@gmail.com