العرب ما بعد الثورات.... ؟؟؟
الوطن العربي عبر تاريخه كان و مايزال موضع اهتمام الدول الاستعمارية على الدوام , لذلك فالذي حدث ويحدث في بلدانه من ثورات وانتفاضات , كان متوقعا من الدوائر الإستخبارية في الدول الاستعمارية التي وضعت المنطقة تحت هيمنتها ونفوذها وسيطرتها منذ زمن طويل ,حفاظا على مصالحها الإستراتيجية, وحماية لإسرائيل وأمنها ) .....ولقد كانوا يستشعرون رغبة الشعوب العربية في التخلص من الظلم والاستبداد والاستعباد والهيمنة الأجنبية ومطالباتها المشروعة بالحرية والديموقراطيه , و من اجل تفريغ هذه المشاعر والشحنات المتنامية , ولإبقاء الأوضاع تحت السيطرة أطول فترة ممكنه و خوفا من الانفلات الذي لاتحمد عواقبه بالنسبة لهم ....بادرت هذه الدول إلى دعوة الأنظمة الموالية لها في المنطقة إلى إجراء إصلاحات سياسية و إشراك الشعوب في بعض مفاصل الحكم , حتى لو كانت ديمقراطية صورية , وهي تتدخل أحيانا عسكريا لحماية بعض هذه النظم و تقدم الدعم المالي لبعضها الأخر حتى تعينها على البقاء....
وحتى إسرائيل من خلال خوفها على مستقبلها, تريد أن تبقى هذه النظم كماهي عليه ولا ترحب بأي تغيير بها , بل أن السياسي الإسرائيلي شمعون بيرز , قد ذهب إلى ابعد من ذلك , حين قام في عام 1986 بجولة دولية شملت أوربا وأمريكيا يطلب فيها مساعدات فورية للدول المحيطة بإسرائيل , حتى لاتصل الشعوب فيها إلى مرحلة اليأس فتنزع إلى التطرف مما يضر بمصلحة إسرائيل .... و طرح في كتابة " الشرق الأوسط الجديد" عام 1994 (أن عالم القرن الحادي والعشرين يجب أن يرتكز على تحسين نوعية الحياة ورفع مستوى المعيشة وتعزيز الآمال والطموحات الحياتية، وتحقيق أهداف الرخاء الاجتماعي والعدل الاجتماعي )....يقصد دول المنطقة.
وفي هذا السياق ولنفس الأسباب طرح جورج بوش الابن ووزيرة خارجيته رايس مشروعهم عن " الشرق الأوسط الكبير" في عام 2006, (عن طريق إعادة تشكيل المنطقة وترتيبها على شكل دول تتكون من طوائف دينية ومذهبية وعرقية ...بما يشبه سايكس بيكو جديد.... يضمن البقاء لإسرائيل كدولة يهودية في المنطقة ), ولا مانع عندهم من حدوث ( الفوضى الخلاقة ), كما حدث في العراق ، المهم لديهم ولادة شرق أوسط كبير من حطام هذه الفوضى،مسالم وديمقراطي صديق للغرب ولإسرائيل.
وعلى الرغم من أن بعض الأنظمة العربية التي حدثت فيها ثورات وانتفاضات , تروج عن وجود نظرية المؤامرة في تفجير الشوارع العربية تحت أقدامها من قبل جهات دولية (ربما قد كان بعض هذا صحيحا في فترة ما ), ولكن لقد خلقت هذه الأنظمة الظروف الملائمة لانطلاق الثورات فيها,عن طريق مصادرتها لحريات شعوبها وقمعهم واضطهادهم ,هذه الثورات التي بدأت في تونس حين تعاطف الناس هناك مع محنه ( البو عزيزي ) فثاروا وامتد لهيب ثورتهم ليصيب معظم البلاد العربية , بعد ان تم تحطيم حاجز الخوف المزمن عند المواطن العربي , فانطلقت هذه الثورات فجأة وبدون مقدمات و كان معظمها عفوي و بدون قيادة واضحة مباشرة ,في سبيل الحرية والكرامة والعدالة ومقاومة النهب والفساد , ورغبة الشعوب في إسماع صوتها والتعبير عن رغبتها في المشاركة بالحياة السياسية , شملت الثورة الشعب كله بكافة أطيافه وفئاته , لقد أثبتت الأحداث أن الأجهزة الأمنية القوية وحدها لاتكفي , و انه لاتوجد دوله محصنه ضدّ ثورة الشعب .....
هذه الثورات دلت على توحد مشاعر وطموحات وأحلام الشعوب العربية ذات الثقافة الواحدة والتاريخ العربي الإسلامي المشترك , وأعادت الحلم العربي في الوحدة والاستقلال..... هذه الثورات أثبتت أن القضايا القومية العربية مثل القضية الفلسطينية التي ارتفعت أعلامها في معظم الميادين العربية المطالبة بالثورة والتغيير و التي رغم مرور كل تلك السنين تبقى في ضمير كل عربي ومسلم .....
ولكن وبالتأكيد أن هذا الذي حدث من تغيرات دراماتيكية هائلة في المنطقة ,كان مفاجأ في سرعته ونتائجه وأذهل الدوائر الإستخباراتية في الدول الاستعمارية ولم تكن النتائج في حساباتها أو توقعاتها , وأربك تخطيطاتها وترتيباتها المستقبلية للمنطقة العربية , وكثيرا ما ينقلب السحر على الساحر, لقد بدأت تشعر الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية جميعها بسبب الثورات العربية ، بالخوف على مستقبل نفوذها ومصالحها في المنطقة، فسقوط أنظمة موالية لها قد يؤدي إلى انخفاض نفوذها ,ويؤكد فشل السياسات والاستراتيجيات القديمة التي اتخذتها في المنطقة,فبدأت تعيد تقييم سياساتها واستراتيجياتها تجاه المنطقة , باعتماد سياسة واقعية تريد احتواء هذه الثورات الجامحة وترويضها لركوبها ,فقد رأت هذه الدول أن مصالحها تقتضي عدم معادة الشعوب الثائرة بل السير مع رغباتها ضد أنظمتها وإن كانت حليفه لها , وليس أدل على ذلك الموقف الفرنسي من الثورة في تونس في البداية ثم كيف تغير الموقف الفرنسي مع الثورة في ليبيا وكذلك الايطالي , وسارع كبار المسئولين الغربيين إلى زيارة ميادين وساحات التحرير في أكثر من بلد عربي ....ورغم أن تردد الإدارة الامريكييه كان واضحا وانتقائيا تجاه هذه الثورات العربية ,إلا أنها تحاول أن تظهر بأنها معها , لتنفي عن نفسها داخليا تهمه مساعدتها لأنظمه قمعية ضد شعوبها, حيث أن الشعب الأمريكي يعتقد أن هذا الذي يجري في منطقتنا مشابه لسقوط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا ......
وتقوم الإدارة الامريكيية الحالية بإدخال تغييرات على سياساتها الخارجية في المنطقة, مثل التحرك الجديد باتجاه السلام في القضية الفلسطينية , وتبدي نصائحها لبقية الأنظمة في الدول التي لم تشملها الثورات وتطالبها بإجراء إصلاحات سياسية تكفل لها البقاء .... (رغم أن عملية إجراء إصلاحات سياسية ثقيلة على قلوب الأنظمة العربية ), وتنصحها أيضا بعمل تكتلات سياسية وعسكرية في المنطقة لتحمي نفسها كذلك , لأنه و بسبب فشل تجربتها المرة في العراق وأفغانستان, فهي لن تشن حربا بالوكالة على إيران لمصلحه العرب لأنها تعرف أن تكلفة ذلك باهضة وجسيمه, فهي تقوم فقط بتقديم الدعم اللوجستي والجوي عند اندلاع الحرب , كما تفعل الآن في ليبيا بطائراتها التي بدون طيار ......
والمؤلم بخصوص هذه الثورات انه في بعضها , قد تم طلب العون الدولي لمساعدة الشعب في ثورته ضد نظامه الظالم الدموي المستبد , تقوم بذلك دول كانت وما زالت معاديه للعرب في أهدافها وأفعالها وسياساتها ....ليصدق في ذلك قول الشاعر العربي ( ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى...... عدوا له ما من صداقته بد!)................
وفي الختام لابد من القول انه رغم التخوفات التي يبديها بعض المثقفين و المفكرين من حدوث انتكاسة في النهضة العربية الجديدة وثورتها المجيدة , والتأمر عليها بالعمل على إجهاضها , وركوبها من قبل قوى الظلم والقهر والاستبداد من أعوان الاستعمار وعملائه ....إلا أن هذه الثورات وأهمها الثورة المصرية الباسلة التي قد أعادت إلينا مصر العروبة والمجد والتاريخ , والتي كان أهم بشائر ثورتها هو فك الحصار الظالم المفروض على غزة هاشم من قبل نظام حسني مبارك البائد الداعم لإسرائيل .... وان الأحداث الأخيرة, قد خلقت إرادة وقوة موازية مقاومة لأي نفوذ استعماري مستقبلا.....و انه لابد من القول أيضا أن المارد العربي قد خرج من القمقم أخيرا....ولن تقبل الشعوب العربية بما كانت عليه الأوضاع سابقا في دولها,..... إنه عهد عربي جديد واعد , وأن التغيير قادم بلا شك..........
طلب عبد الجليل الجالودي
talabj@yahoo.com