رائد علي العمايرة
ذات يوم شَمْسُهُ مشرقة ٌدافئة ٌ،ونسيم هواءِهِ ينساب برقة ٍ، وخرجت من بيتي لأمر من أمور دنياي أسعى يملؤني الانشراح ، وكنت قد قصدت صديقا لي في حاجة ينظرها معي ، فلما أتيته وهممنا بالمضي لحاجتي ، قال لي لو سمحت فقط اريد ان اذهب مع أحد معارفي لتعيين مكان قبر لأحد الموتى ولن يستغرق الامر وقتا ، فقلت هَلُم لا ضير
ولما اقتربنا من المقبرة رأيت حالي ونظرت الى هندامي وما اركبه من مركب وثير ،ثم نظرت الى المقبرة ، وقلت في نفسي :أوليس هذا الميت الذي سيقبره أهله اليوم قد كان مثلي حيا ً يتقلب في نعمة الله بين أهله وخلانه ، اليس يأتي اليوم الى هذه المقبرة محمولا على الأكتاف ، ثم يوضع في شق من الأرض ثم يهال عليه التراب ، ثم يقيم بين لحدين تنهشه الديدان ويحيط به الظلام ، فمالي لا أتعظ ومالي أظن أنني بعيد
ومالي أرى الناس يتكبرون على امر الله ويجعلون له نصيبا ويجعلون لأنفسهم نصيبا وهم في آخر الامر سيكونون رفاتا وترابا لا يملكون من أمرهم شيئا وليس لهم إلا رحمة الله تعالى إن لم يتغمدهم بها فالويل لهم كل الويل .
ثم نزلنا الى المقبرة ، وهي في موطن انحدار فكانت القبور امامنا كصفحة تقرأ فيها الكثير من العبر ، فهاهنا قبر مشرف وقد رفعوه حتى إنه لتشرئب اليه الاعناق ، فقلت اليس هذا قبر فلان فقالوا نعم فقلت الله أكبر ،اينفعه وقد مات قبرٌ مشرف ٌيكسوه الرخام ، اينفعه الآن جاهه ومكانه القديم بين الأنام ، أيرأف به الدود فلا يأكله لكثرة ماله ، يا ترى ماذا صنع الله به وقد كان يتكبر على شرع الله فيقول انه لا يصلح للحياة ولا للحكم به ،وفيه الكثير من الشدة على الخلق ، ياترى ماذا صنع بترك الصلاة وأكل الربا ، ياترى ماذا صنع بذرية تركها خلفه لا تعلم من أمر دينها شيئا وقد تكالبوا على أمواله التي جمعها فاستعملوها لمعصية الله ،ولم يقل احد منهم يوما رب اغفر ولوالدي ،فقال الناس عند رؤيتهم أوسعوا لأبناء فلان ،أجلسوا أبناء فلان ، هؤلاء أبناء فلان ،ثم يذكرون له مناقبا هي عند الله من أقبح ما يذكر عن الأموات والأحياء ،
ثم أطلت النظر في القبور وقلت اليس هؤلاء كانوا مثلنا يسعون في الارض ويطلبون الدنيا وهم لا يظنون أنها ستزول عنهم يوما من الأيام ، ألم يكونوا يفرحون ويحزنون ،ويتعادون ويتحابون ، فأين هم اليوم؟ اين هم؟ قد باتوا بين أطباق الثرى رفاتا كأن لم يغنوا فيها ،كم من منعم فيها لم يكن الناس يأبهون به ،وكم من معذب فيها كان الناس يتمنون مكانه بالأمس ، فسبحان من له الملك وهو حي لا يموت،
ثم لما هممت بالخروج من هناك نظرت فإذا قد أصابني تراب علق على ثيابي ،فأخذت أزيله عنها ، فقلت في نفسي اليس من المحتمل ان هذا التراب الذي أزيله اليوم واتقزز منه أليس ربما كان في يوم من الأيام قدودا هيفاء وأعينا حوراء ، وخدودا موردة يترآءى الحسن فيها كأن البدر خلق من وجناتها ، وأجساما ناعمة لا يلامسها إلا حُرُّ الحرير ولا يُشَمُّ منهاإلا الغالي من الطيب ، قد سمت اليها أنفس العاشقين وتحدث الناس بجمالها فلم يستطيعوا اليها سبيلا لعلو مكانها ، وها هي اليوم تراب أزيله انا عن ثيابي ثم أمضي ،
لولم يكن بعد الموت حساب ولا عقاب ،لو كانت الحياة تنتهي بالشيخوخة ثم بالموت فقط ، لكانت عبرة لمعتبر ، لو كان من يتحدثون عن المستقبل دائما يعلمون أن هذا مستقبل كل حي من الناس ، لو علموا أن الشيخوخة والمرض والضعف ثم الموت والقبر هو فقط مستقبل الإنسان المنظور ، لكان ذلك داعيا الى الاقتصاد فيها ، وعدم التكالب عليها وترك النفاق والكذب والتعدي والتلون والاحتيال من أجلها ، لو علموا ذلك لما تكلم أحد منا عن المستقبل فهذا هو المستقبل الذي يجمع الناس عليه لو صدقوا .
ثم تمثلت أبياتا لأبي العتاهية رحمه الله تعالى يقول فيها .
أما ورب البيت والمسعى *******وزمزم والهدايا المشعرات ْ
إن الذي خُلقت له الدنيا ****وما فيها لَنازِلة ٌتجَــِلُّ عن الصفـات ْ
عش ما بدا لك أن تعيش بغبطة**ما أقرب المحيا الطويل الى المماتْ
أين الملوك ذوي الدَّساكر***** *والعساكر والقصور المشرفات ْ
والملهيات فمن لها والغاديات*** الرائحات من الجياد الصافنات ْ
هم بين أطباق التراب فنادهم ****أهل الديار الخاليات الخـاوياتْ
هل فيكم من مخبر أين استقر ****قرار أرواح العظام البــاليـاتْ
والدهر لا يبقي على نكباته ****صم الجبال الراسيات الشامخاتْ
اللهم إني أسألك أن تهديني سواء السراط ،وأن لا تعذبني وأن تعفو عني
وأن ترحمني وأن تغفر لي ولوالدي ولوالدي والدي وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.