عند إستقراء العناوين العريضة لمسودّة القانون المعدّل لقانون التنفيذ سيخال المتلقّي للوهلة الأولى بأن هذا القانون يجيء للحفاظ على الأمن الإجتماعي وللموازنة بين مصلحة الدائن والمدين وذلك من خلال تطويق حالات (حبس المدين ) وتقليم أظافرها وفرض إشتراطات وقيود أشبه بالمستحيلة قبل الوصول إلى خيار (الحبس) كوسيلة قانونية لجبر المدين على الدفع ، إلّا أن ذلك كلّه ليس إلّا ضرباً من الوهم سيميط الواقع اللثام عن حقيقته خلال سنوات قليلة ، وسيؤدي قانون التنفيذ بحلّته المقرّرة من قبل الحكومة إلى إزدياد عدد المطلوبين والمحبوسين على هذه الديون ، علاوة على الأثار الإقتصادية والإجتماعية التي لن نملك إنكار جائحتها فور نفاذ هذا القانون.
(إلغاء الحبس على الإلتزام التعاقدي)
إن أكثر المواد اللاهبة في مسودّة التعديل المتداولة هي تلك المادة التي لا تجيز (حبس المدين ) عن الديون التي يكون مصدرها (الإلتزام التعاقدي ) والتي سيُعمل بها بعد ثلاث سنوات من نفاذ قانون التنفيذ المعدّل ، فبعد إنقضاء تلك السنوات الثلاث سيُلغى (حبس المدين ) وبالمطلق عن أيّ دين أساسه (العقد) سواء أكان عقد ( قرض ، بيع ، توريد ، إجارة ، عمل ، مقاولة ......) وغيرها من صور وأشكال العقود المسمّى وغير المسمّى والمكتوبة وغير المكتوبة ، إذ أنّ هذا النص المعدّل وبصيغته المتداولة جاء عامّاً مطلقاً من حيث ماهية الإلتزام التعاقدي وطبيعته والمطلق يجري على إطلاقه ، وهنا لا بد من الوقوف عند العديد من الإشكاليّات القانونيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة حول مادة (الإلتزام التعاقدي) المزمع تعديلها ومن أبرز هذه الإشكاليّات :
١. إن حكم (عدم جواز حبس المدين نتيجة عدم وفاءه بإلتزام تعاقدي) سيسري بعد ثلاث سنوات من نفاذ قانون التنفيذ بصيغته المعدّلة.
٣. إن نفاذ هذا التعديل بعد إنقضاء السنوات الثلاث وإضافته إلى المستقبل هو في الحقيقة ليس إلّا وقتاً إضافياً ومساحة زمنيّة تمنحها الحكومة (للبنوك وجهات الإقراض وصناديق التمويل...) لتستعر على جموع المقترضين وتحصيل ديونها قبل إنقضاء مدة السنوات الثلاث .
٤. ستسارع البنوك وجهات الإقراض إلى تحصيل ديونها من خلال تحريك الدعاوى في مواجهة المقترضين المتعثّرين أو أولئك الذين يتخلّفوا عن دفع أيّ قسط من الأقساط المستحقة دون منح مُهل للسداد أو جدولة هذه الديون ، حيث تعلم هذا الجهات بأن فترة الثلاث سنوات قد تكون فرصة التحصيل الأخيرة .
٥. ستلجأ البنوك وجهات الإقراض إلى توثيق هذه الديون (القروض) بتأمين عيني ، الأمر الذي سيُثقل كاهل المقترض ويجعل من قدرته على الإقتراض شبه معدومة.
٦. ستلجأ البنوك وجهات الإقراض إلى الحصول على ضمانات من المقترض غير (عقد القرض) كشيكات أو كمبيالات تزيد قيمتها عن ٥٠٠٠ آلاف دينار ، الأمر الذي يخرج العلاقة فيما بين الجهة المقرضة والعميل عن ماهيتها القانونية التعاقدية ، ليصبح المقترض أمام صورة من صور ( الربا الفاحش) والتي لن يملك المقترض معها سوى الإذعان والرضوخ.
٧.علاوة على التأمين العيني والمحرّرات الخطية التي ستخرج العقد عن ماهيته التعاقديّة ، ستلجأ هذه الجهات وتحت وطأة الحاجة إلى إرغام المقترضين القدامى والجدد على إحضار كفلاء لتوسيع دائرة الضمانات ، الأمر الذي سيشظّي ويضاعف حلقة المديونيّة وأعداد المدينين.
( فقدان الثقة بالعقود)
يعتبر (العقد) من أهم وأبرز مصادر الإلتزام لكونه الشريعة الناظمة والحاكمة فيما بين أطرافه ، والتي تتلاقى فيه إرادة هؤلاء الأطراف على مجموعة من الإلتزامات والتعهّدات والإشتراطات التي ينظّمها ويحكمها هذا العقد ، وتكمن القوة الحقيقيّة لهذه العقود بنجاعة الضمانات التي يؤطّرها القانون لضمان تنفيذ هذه التوافقات التعاقديّة وذلك من خلال وسائل الحماية والإجراءات التنفيذية التي يفرضها القانون على الإخلال بالإلتزام التعاقدي ، ومن أهم هذه الوسائل (الحبس) بوصفه أداة لجبر المدين على الدفع جرّاء نكوثه بتعهّداته التعاقديّة ، ولولا هذه الضمانة القانونية لما أبرمت الآلاف من عقود الإجارة والبيع والتوريد والمقاولة والتشغيل والعمل والحراسة والقرض وغيرها من أشكال العقود المسمّى وغير المسمّى ، سيشوّه هذا التعديل شكل التعاملات التعاقدية مستقبلاً ويخرجها عن مفهومها وماهيتها العقديّة ، فسيبحث المؤجر والبائع والمورّد وصاحب السلعة ومقدّم الخدمة عن ضمانات أخرى غير (العقد) كالمحرّرات الخطية مثل الشيكات والكمبيالات والإقرارات العدليّة وغير العدليّة وسيرضخ كلّ هؤلاء لمقدّم المنفعة سواء من حيث قيمتها لتصبح ضمن الحدود المسموح فيها بالحبس والبالغة ٥٠٠٠ آلاف دينار ، أو من حيث توفير ضمانات إضافيّة كالتأمينات العينيّة أو كفلاء لضمان الوفاء ، الأمر الذي سيوسّع الرتق على الراقع ويزيد من أعداد المدينين ، ويجرّد (العقد) من الغايات التي شُرع من أجلها.
(فقدان الثقة بين التجّار)
منذ اللحظة الأولى لتدحرج مسودّة التعديل على طاولة الحكومة بدأ التجّار وغيرهم من الأفراد بالبحث عن ضمانات و خيارات بديلة تؤمّن تحصيل حقوقهم الماليّة السابقة والاحقة ، نظراً لفقدانهم الضامن العملي والفعلي في تحصيل هذه الحقوق ، فالدفاتر التجارية و الفواتير وكشوفات الحساب وسندات القبض والاستلام و غيرها من الأوراق التي يتعامل بها التجّار والتي تقل قيمتها عن ٥٠٠٠ آلاف دينار اصبحت أوراقاً غير ضامنة لتحصيل هذه الحقوق والذمم الماليّة ، خاصة في ظل عدم وجود أموال لدى المدين يجوز الحجز عليها وتكفي للوفاء ، الأمر الذي سيشوّه ملامح التعاملات الماليّة والتجاريّة فيما بين التجّار ، وهنا لا بد من الإشارة إلى ما يلي :
١. التعاملات التجاريّة والماليّة التي تقل قيمتها عن ٥٠٠٠ آلاف دينار هي الأكثر عرضة لفقدان الثقة.
٢. إن هذه التعاملات تكون عادة في المشاريع الصغيرة و الحِرف البسيطة و النشاطات المحدودة ، وتجري فيما بين صغار الكسبة وأصحاب الدخل المحدود.
٣. سيلجأ التاجر الدائن إلى إثقال كاهل المدين بضمانات إضافيّة معزّزة تأميناً لتحصيل الذمم الماليّة ، الأمر الذي سيُخرج التعامل التجاري عن ماهيته وطبيعته ، علاوة على تمدّد حلقة المدينين وإزدياد قيمة الدين الفعليّة.
٤. إن أيّ مشروع أو نشاط تجاري حتى يبدأ بممارسة نشاطه غالباّ ما يحتاج إلى إبرام مجموعة من الإتفاقات لإخراج مشروعه إلى النور أو ضمان ديمومة مشروعه ، فيحتاج التاجر لإبرام عقود إجارة وعقود توريد وعقود عمل وفواتير وكشوفات حساب وغيرها ، كلّ هذه الحلقة ستفقد تقوّسها لغياب الضامن الفعلي لتحصيل الديون الناشئة عن تلك التعاملات ، وسيكون النشاط التجاري و التاجر هما الخاسر الأكبر.
٥. تأسيساً على ذلك ستنعدم الثقة الماليّة في التعاملات التجاريّة و تنخفض حالة العرض والطلب ، وتنقطع السلاسلة الدائريّة لهذه التعاملات ، بالإضافة إلى خفض الضخّ المالي والتراخي في دفع الذمم الماليّة المستحقة ، الأمر الذي سيجبر أصحاب المشاريع الصغيرة على إغلاق هذه المشاريع ، بالإضافة إلى الأثار والتبعات التي لن يكون العاملين في تلك المشاريع وأسرهم بمنأى عنها.
(الديون التي تقل قيمتها عن خمسة آلاف دينار)
إلى هذه اللحظة لم تتجلّى الحكمة التشريعيّة من تسقيف منع حبس المدين عن الديون التي تقل قيمتها عن مبلغ ال ٥٠٠٠ آلاف دينار ، ولم يتكشّف فيما إذا كانت الحكومة وقبل الوصول إلى هذا السقف قد أجرت دراسات إحصائيّة تبيّن عدد الدعاوى التنفيذيّة التي تقل قيمتها عن ٥٠٠٠ آلاف دينار والمتصالح عليها والتي تمّ إجراء مصالحات فيها ويلتزم المدين فيها بالدفع ، لِمَا لهذا التعديل من أثر على توقّف المدين عن السداد أو التراخي في الدفع لإنقضاء الحبس بموجب هذا التعديل ، وهل إتكأت الحكومة على مبرّرات إجتماعية و إحصائية واضحة للوصول إلى هذا السقف على وجه التحديد ! وهل قامت الحكومة بإجراء دراسة إجتماعيّة تبيّن فيما إذا سيكون لهذا التعديل من أثر على الدائن فيما يتعلّق بتنامي جريمة (إستيفاء الحق بالذات) ! ، وهل تنبّهت الحكومة بأن التعديل بصيغته المقرّرة سيحفّز المدينين إلى تهريب أموالهم المنقولة وغير المنقولة لإنعدام الحبس كأداة لجبر المدين على الدفع ! وهل من الحكمة التشريعيّة ألّا يجوز الحبس عن كمبيالة قيمتها ٤٩٩٩ دينار في الوقت الذي يجوز فيه الحبس عن قرض قيمته ١٠٠٠ دينار ! في ظل عدم قيام الحكومة بإماطة اللثام عن الحكمة التشريعيّة لهذا التسقيف ، وفي ظل عدم نشر أيّ دراسة إجتماعيّة إحصائيّة سيبقى هذا الرقم ضرباً جزافياً لا مبرّر له.
( بدائل هذا التعديل )
الحقيقة التي لا يمكن إنكارها بأن حبس المدين ليس المشكلة وإنما هو (النتيجة) ، وتكمن المشكلة الحقيقيّة في تدهور الوضع الإقتصادي وإنخفاض المداخيل وارتفاع نسبة البطالة ، وسياسية الجباية العشوائية الطاردة للمشاريع الصغيرة ، و التي رتقت جيوب دافعي الضرائب والرسوم وجعلت من أصحاب هذه النشاطات (عمّال مياومة) ، هذه المشاكل لا يقع عبء حلّها على الدائن بل على عاتق الحكومة ، وتحويل هذه الديون إلى (حبر على ورق) يدلّل على أن هذا الملف كان أكبر من طاولة الحكومة ، فالدائن أصبح الطرف الأضعف في هذه المعادلة خاصة وأنه مدين لشخص أخر و أخر . كما غابت الحكمة التشريعيّة عن هذا التعديل ، فقد غابت أيضاً البدائل والحلول العمليةّ الناجعة والضامنة لتحصيل حقوق الدائنين ، فإن أيّ تعديل للقانون هو لا يجيء من باب الترَف التشريعيّ ، وإنما لتنظيم التعاملات فيما بين الأشخاص وبما يتلائم مع حاجات المجتمع ، ومن خلال موازنة حقيقيّة لا صوريّة بين حاجة المدين وحقّ الدائن ، وحول غياب هذه البدائل والحكمة التشريعيّة أبدي جملة من العنواين التي قد تصلح كبدائل أو معزّزات :
١. عدم سريان هذا التعديل بأثر رجعيّ.
٢. الإبقاء على قانون التنفيذ بصيغته الحالية فيما يتعلّق بحالات الحبس ، ومنح المدين مهلة زمنيّة من سنة إلى سنتين لتصويب وضعه المالي قبل الرجوع إلى تفعيل (حبس المدين).
٣. وجوب التفرقة بين الإلتزام التعاقدي الناشئ عن العقد المدني والعقد التجاري من حيث قابلية الحبس.
٤.وجوب التفرقة بين الدين الناشئ عن التعاملات المدنيّة والتجاريّة من حيث قابلية الحبس.
٥. نهوض الحكومة بواجبها الإجتماعي والمساهمة في سداد الديون الصغيرة ، من خلال إنشاء صندوق تكافل لهذه الغاية تكون إيراداته من الرسوم والضرائب التي يدفعها المواطنون ، وذلك عن الدعاوى المنفّذة و غير المسدّدة قبل إقرار القانون.
٦. تحمّل الدائن نسبة (مئويّة ) من مقدار الدين المنفّذ أو المتصالح عليه تذهب إلى خزينة الدولة كمساهمة من الدائن في تكلفة المدين النزيل لدى مراكز الإصلاح والتأهيل ، على أن تخصم هذه النسبة من المبلغ المنفّذ أو المتصالح عليه عند تحقّق شرطين هما حبس المدين ودفع المبلغ.
٧.ضرورة التفرقة بين المدين المتعثّر والمدين الممتنع عن الدفع.
٨. تكليف المدين الذي يدّعي عجزه عن الوفاء بمراجعة المحكمة لإثبات هذا العجز أو عدم الإقتدار ، وإخراج هذه المسألة من صلاحيات قاضي التنفيذ إلى قاضي الموضوع.
٩.إيجاد حلول مدنيّة بديلة إستباقيّة قبل الوصول إلى خيار (الحبس) كمنع المدين من السفر ، وإيقاف كافة تعاملاته المصرفيّة ومعاملاته الحكومية ، وفي حال استمرّ بعدم الدفع يصار إلى تفعيل (الحبس) في مواجهته.
كما أننا لسنا مع حبس المدين ، فنحن لسنا أيضاً مع إهدار حقوق الدائن ، خاصة وأن هذا التعديل إستثنى حقوق كبار التجّار والدائنين من خيار الحبس ، مستهدفاً حقوق الدائنين أصحاب المشاريع والحِرف والأنشطة البسيطة من مؤجّرين وأصحاب مِحال وبضائع ومقدّمي خدمات لا تتجاوز ديونهم ال ٥٠٠٠ آلاف دينار أو تلك الناشئة عن إلتزام تعاقدي ، في الوقت الذي يجيء فيه هذا التعديل كإستجابة للضغوطات الدوليّة والمنظمات الحقوقيّة وملاطفة لمزاج الشارع العام ، قد غابت البدائل والحلول الواقعيّة والعمليّة عن هذا التعديل الأمر الذي لا يحقّق بيئة ماليّة وإقتصاديّة وإجتماعيّة آمنة للجميع.
المحامي
حمزة عيسى الفقهاء