دولةُ طاهر المصري: انفلاتٌ سياسيٌّ موجود أم خيالٌ سياسيٌّ مفقود ؟
حسب صحيفة زاد الأردن والتي أثق بخبرها وأُقدّره...؛ وفي أوّل لقاء هو الأوّل له على شاشة قناة رؤيا عقب صدور نتائج لجنة الحوار الوطني؛ قال رئيسها - رئيس مجلس الأعيان – دولة طاهر المصري بأنّه: (مستاء جدّاً من فقدان الدّولة بمؤسساتها لهيبتها، وأنّ الأردنّ يعيش حالة من الانفلات السياسي المقلق...)، وانتقد المصري ضمنيّاً تعاطي الحكومة مع المجريات والأحداث في المنطقة معتبراً أنّ الأردن يمرّ في عنق الزّجاجة كون المنطقة تمرّ بمتغيّراتٍ عديدة وحالة من عدم الاستقرار، ومشدّداً على أنّ هذه الحالة تحتاج إلى (تفتيح العيون)، والحذر من القادم الذي أبدى قلقه الشّديد حوله، ومشدّداً كذلك على ضرورة التّفاؤل بالمستقبل... .
كنت أتمنّى لو أنّ دولته كان صريحاً أكثر وأعلنها مدوّية دون أن يخشى في الحق لومة لائم وقال: إنّ ما ينقصنا الآن هو رجال السّياسة والخيال السّياسي الذي نفتقده و (لا أعمّم) لدى شبه الجميع وتحديداً لدى السّياسيين المتحدّثين والمنظّرين عن الأردنّ حاضرها ومستقبلها...، وإلّا ما معنى أنّ الكلّ يدلي بدلوه ويتحدّث ويطرح ويشير ويُنوّه...، ولكن دون أيّ رؤية تستند إلى أدنى خيال؟ أليس الحركات التّحرريّة والإصلاحيّة ولنقل الثّورات الإنسانيّة؛ جميعها هي أفعال لا يمكن أن تكون تقليديّة البتّة وإلّا لما أخذت واتسمت بهذه الصّفات الرّاقية الحميدة، وما جعلها كذلك هو أنّها أفعال غير تقليديّة، وأشدّد على (غير)، ولا يمكن لها أن تنتج وتحقّق ما قامت أو تصبو إليه؛ إلّا بعد خيالٍ واسعٍ أقلّ ما يُطلق عليه: آفاقٌ رحبة في التّفكير... .
هل التّعامل مع حركة شعب ضمن مجتمع يضمّ في قسماته اختلافات عرقيّة ودينيّة وطبقيّة وفق خططٍ وجداولٍ زمنيّة ولجانٍ جافّة وبرامج سياسيّة صلبة وينعدم في جميعها الثّقة من أساسه بسبب خبرات سيئة سابقة مُتكرّرة عاشها ولا زال يعيشها؛ يمكن لنا أن نُطلق عليه انفلات سياسي أم خيال سياسي مفقود لدى ساستنا؟ لنفترض أنّ ذلك مقبولاً أثناء استقرار المنطقة حولنا واستقرار البلاد داخليّاً، ولكن ما رأيك به في هذه الظّروف التي نتّفق عليها جميعاً بأنّها حرجة ودقيقة؟ هل هذا انفلات سياسي أم فقدان خيال سياسي يمكن له في حال وجوده أن يرسم لنا مرحلة ما بعد الصّحوة أو غير التّقليديّة لدى الشّارع، ويكون للجميع بوصلة لتحديد الاتجاهات واستشراف المستقبل؟
دَعْني لأبرهن لك من خلال بعض الأمثلة والشّواهد الحيّة وعشناها ونعيشها الآن؛ بانّ ما يمرّ به الأردن والأردنيون هو للأسف خيال سياسيّ مفقود وليس انفلات سياسيّ حسب رأيك الذي أُجلّه وشخصك الذي اُقدّره وأحترمه:
ما هو المغزى من تشكيل لجنة الحوار الوطني التي أنت رئيسها، وهناك ما يُسمّى بالميثاق الوطني المُتفق عليه من الجميع، وأظنّه غنيّاً بالمساواة والعدل في الواجبات والحقوق في بنوده، ولكنّه فقيراً لمن يلتفت إليه أو لديه النّية لتنفيذه والسّير بشجاعة عليه؟ وهل الحوار في الأردن يحتاج إلى حوار...فكلّنا متفقين كيفما أو كما كنّا على محاربة الفساد ومحاكمة رموزه، وإحلال العدل والمساواة، وممارسة عمليّة انتخابية حقيقيّة نزيهة وشفّافة ونتمنّى أن نقول فيها لأوّل مرّة في تاريخ أُردننا الحديث المعاصر (نعم أو لا) حرّتين...، فمن يقول غير ذلك...؟ وعلى ماذا الحوار وليس هناك قضيّة مُختلف فيها شعبيّاً ومن الجميع؟ فهل شق صف الأمّة واختلافها حول مخرجات الحوار هو انفلات سياسي أم عدم تصوّر وفقدان خيال سياسي لما سيحدث أو قد يحدث؟ ولا أريد القول هنا (عُهر سياسيّ) لأنّ كلّ ما يُلفظ لديه رقيب عتيد.
كيف لم يقرأ ويتصوّر ويتخيّل ساسة الأردن (جهابذة السّياسة) أنّ من قام بحركات الإصلاح والمطالبة به؛ هم من الشّباب – صغير السّن – وخلفهم ويدعمهم من تقدّم وهرم وتجاوزه العمر من الذين أرادوا رسم صورة مستقبلٍ يحمل عنوان شبابٍ يبدأ ويتراوح مابين عشرينيٍّ وأربعينيٍّ، فيأتي السّياسيّون أخيراً بحكومة جميع أعضائها من الشّيوخ والمُسنّين بعد إن افتقدت لأدنى خيالٍ سياسيٍّ ترى فيه شبابيّة الإصلاح والتّغيير...، فلم تأتِ ولو بوزيرٍ واحدٍ يمثل هؤلاء الشّباب أو يحمل أفكارهم وميولهم واتجاهاتهم...، فأين الانفلات السّياسي في ذلك؟ إنّه لا يمكن أن يكون إلّا خيالاً سياسيّاً مفقوداً ليس إلّا وفقط لاغير.
عندما تتابع تصريحات الحكومة أو تطالع مهامها وواجباتها؛ فإنّك لا ترى ولا تسمع سوى وعوداً في محاربة الفساد، وزيادة الرّواتب وهيكلتها في القطاعين العام والخاص، وهو مثمّن ومطلوب لو أنّه يقترب من الحقيقة ويطلعنا عليه الواقع ويشفي صدور شعب مقهور، أمّا الحديث عن المستقبل؛ فهو مؤجل مؤجّر لا تسمع عنه سوى تقسيمات خفيفة خجولة على أوتار عود سياسيّ مغنٍ أصم أبكم أعمى...، لتجد نفسك أمام مسئول ليس له بالخيال السّياسي ناقة ولا برؤيتها جمل...، (مُوَظَف لا مُوَظِّف) وبينهما معانٍ مُختلفات كفرق الثرى عن الثريّات... .
يا دولة طاهر المصري الأكرم: لنا أن نختلف أو نتفق حول سياسات الراحلين رحمهم الله فليس هو بيت قصيدنا هنا، وجزآهم عنّا خير الجزاء وعلى سبيل المثال لا الحصر (وصفي، هزّاع، وعبد الحميد، والنّابلسي...) والحاضرين بيننا (عبيدات، الكباريتي، والطّراونة، والمصري الطّاهر أنت...)؛ ولكن ليس لنا أن ننزع عنهم صفة القيادة (الرّمزيّة) السّياسيّة التي كانت تتمتّع بالرؤية الشّاملة والخيال الواسع، وهما ما تفتقده للأسف مرّة أخرى سياساتنا بأغلب من يمثّلونها حاليّاً، والدّليل ما انتهت أو ما ستنتهي وما ينتهون أو سينتهون له أو عليه الآن أو في وقتٍ قريب... .
سؤال: كيف سنبني ونشيّد سوراً يحاكي سور الصّين العظيم بشهورٍ أو لنقل سنة، وقد فشلنا في وضع طوبتين أو أكثر منه طوال ما يُقارب الثلاثين عاماً تنقص أو تزيد؟
إجابة: الانجاز السّريع لكلّ المعضلات (الملفّات) في وقتٍ واحدٍ وفي كل الاتجاهات؛ يجعلنا نتحوّل عن قولنا بأنّ هناك انفلات سياسيٌّ موجود إلى قولنا هناك خيالٌ سياسيٌّ مفقود، ولا مناص عن البحث عنه، والتّمسك والتّمثّل به، والتّنعّمِ بعد العيش فيه إن أردنا لهذا البلد العزيز الغالي والشّعب الطّيب الأشمّ موفور الصّحة والعافية...، وقول الحسين بن طلال رحمه الله ليس عنّا ببعيد يوم قال: (كُثرة الزّحام تُعيق الحركة) وهذا هو (بلى أبوك يا عقاب)، فبلاؤنا هو عدم التّلفّت وليس الانفلات، وهي سمة أكثر ما يتّصف بها السّاسة العرب ويتمسّكون بها، وما أغلب ساستنا والحمد لله إلّا نموذجاً حيّاً منهم.
وإلى دولتكم الذي أجلّ واقدّر ويتفق معي بذلك جلّ الأَرْدُنيّين على ما أعتقد وأجتهد؛ كل التّقدير وخالص الاحترام...، والسّلام.
shahimhamada@yahoo.com