يبدو بأن سنوات الحكم الطويلة لبعض الزعماء العرب لم تسعفهم لتفهم عادات وتقاليد شعوبهم، ومراعاة مشاعرهم وكرامتهم، فاليوم ونحن نعيش أياماً مشتعلة بالثورات في بعض البلدان العربية، نبحث معاً في الشرارة الأولى التي أشعلت تلك الثورات، وأججت نيرانها.
ما حدث هو أن تلك الشعوب \"الثائرة\" والتي خرجت للمطالبة بحقوقها، لم تجابه بالإهمال وإتهامات التخوين فقط، بل وقوبلت بإمتهان الكرامة، ذلك الخط الأحمر الذي لا يمكن السكوت عليه.
فدائماً ما كانت الشعوب العربية تتغنى قبل ظهور دين العدل والمساواة الإسلام بقول عنترة بن شداد:
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أطيب منزل
في تونس \"فاتحة الثورات العربية\"، نجد بأن صفع شرطية تونسية لشاب تونسي خرج للبحث عن رزقه، كانت الشرارة الأولى التي أحرقت تونس بأكملها بعدها في ثورة لم تهداً آثارها إلى اليوم.
وفي مصر وجدنا كيف خرج الملايين إلى ميدان التحرير، فلم يجدوا من رأس الدولة ورجالها وصفاً أفضل من أنهم \"شوية عيال\"، ليقيم هؤلاء \"العيال\" الدنيا فوق رأس من إستهتر بهم، ويجبرون ذلك الرجل الذي أهانهم وأهان كرامتهم على التنحي ويسوقونه مع رجالاته إلى المحاكم والسجون.
وفي ليبيا وجدنا كيف أن القذافي لم يعترف أصلاً بوجود شعب ليبي، ووصف كل من خرج للتظاهر بالجرذان والفئران والمهلوسين والإرهابيين، تشكيلة من الإتهامات لا يمكن أن تتفق إلا مع رجل كالقذافي !!!
وفي اليمن رأينا كيف أن صالح وصف كل من خرج للتظاهر ضده بأنهم عملاء ومخربين وأصحاب أجندات مشبوهة، بل وأكثر من ذلك ذهب لإهانة النساء الخارجات للتظاهر، وأنهن خرجن للإختلاط، وليس للتظاهر!!
ثم نجد في سوريا قمة الإستهتار بالبشر وكراماتهم، فنرى بأن الأزمة بدأت بمجموعة شبان صغار كتبوا على جدار مدرستهم في درعا \"إجاك الدور يا دكتور\" تأثراً بالثورات العربية، ليتم القبض عليهم من قبل الأمن السياسي، وعندما ذهب شيوخ عشائر درعا وأهالي الشبان للمطالبة بالإفراج عنهم قابلهم أحد المسؤولين الكبار بالقول: ((إنسوا أولادكم هؤلاء وأنجبوا غيرهم، وإن لم تكونوا قادرين فلتأتوا بنسائكم وأنا سأقوم بالواجب)) !!!! أي جواب يمكن أن يحمل إهانة أكبر من هذه الإهانة !!
وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فعندما قام الأهالي بخلع عقالاتهم ووضعها على مكتبه كإشارة على رفضهم لما قال، ونيتهم في عدم المغادرة حتى يتم الإفراج عن أولادهم، أتعلمون ماذا فعل ذلك المسؤول؟؟
قام بأخذ عقالاتهم ووضعها في سلة المهملات !!! لتثور بعدها كرامة سوريا بأكملها ...
نتأسف كثيراً عندما نرى حكام بعض الدول العربية ورجالاتهم لا يفهمون حتى كيفية التعامل مع أبناء بلدهم، بل ويتعاملون معهم كالعبيد المسخرين لخدمتهم فقط، وكان يجب على هؤلاء الحكام أن يعلموا بأن الإهانة التي كان يتلقاها العربي أيام الإستعمار الأجنبي أهون ألف مرة من الإهانة التي يتلقاها اليوم من إبن جلدته، فأقل المعروف أن المستعمر كان يهين العربي بلغة غير لغته، لا يفهمها ولا يتقنها، ولكنه اليوم يهان بكلمات عربية خالصة يفهم كل حرف من حروفها.
نتذكر قصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما جاء إليه شاب مصري قبطي يشتكي إليه ظلمه، ذلك أنه تسابق مع إبن والي مصر محمد بن عمرو بن العاص فسبقه، فنزل محمد بن عمرو بن العاص عن فرسه، وجلده أمام الناس، وقال له :((تسبقني وأنا إبن الأكرمين))، فماذا كان رد أمير المؤمنين عمر على ذلك الرجل؟
هل إستهزأ به وطرده من مجلسه، أو قلع له أظافره، أو قام وطعنه بالسيف خوف أن يسبب الفتنة له في البلاد، ويزلزل أركان حكمه !!
لقد قام أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بنفسه ليجلد محمد بن عمرو بن العاص قصاصاً لذلك الرجل، وحفظاً لكرامته، ثم قال لوالده والي مصر وقتها عمرو بن العاص رضي الله عنه قولته المشهورة :((متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)).
نتمنى أن يأتي اليوم الذي نرى فيه مشهداً كمشهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينام وحده تحت شجره دون عشرات الحراس والإحتياطات الأمنية، ولكن لتحقيق ذلك هناك شرط أساسي.
يا عمر عدلت فأمنت فمنت ....
وإلى هؤلاء الحكام الظالمين نقول: إلا الكرامة والعزة، فلو حاولتم نزعها من شعوبكم، لن يبقى فرد منهم إلا ويطالب بنزعكم من أماكنكم، ولتعلموا بأن الكرامة والشعوب العربية قصة لا تنتهي.
اليوم السؤال ذاته ينتظر الإجابة من كل حاكم إستهان بشعبه وأهانه ، وإستهتزأ بكرامته ...
ترى متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً !!!