حسن محمد الزبن - إنه سرّ أبيه، تربى في مدرسة والده السياسي المخضرم أحمد باشا الطراونة، ومدرسة امتدت بين عهدين، عهد الملك الراحل الحسين، وعهد الملك عبدالله الثاني، فقد كان رحمه الله من أعضاء اللجنة الملكية لمراجعة نصوص الدستور الأردني التي تمكنت من إعادة صياغة مجموعة من نصوص الدستور التي تمثل تطلعات الشعب وقد خرجت هذه اللجنة بتوصيات لتخدم الأردن والأردنيين.
ففي بيت والده إلتقينا، وكنت أنا والحبيب الصحفي والروائي عامر طهبوب في كل زيارة معا، عدا عن زيارات سابقة لعامر تتعلق بموضوع عمله كصحفي تولى فيها العمل على مذكرات أحمد باشا الطراونة ونشرها على صفحات جريدة الدستور، وكان في أغلب جلساتنا الأخ العزيز هشام حاضرا، إلى أن شاءت الأقدار لعامر السفر، فكنت ألبي الدعوة مرارا لأبو هشام وكانت السهرة تمتد أحيانا، بحكم المحبين لأبو هشام كثر، وأغلبهم من رجالات الدولة، وسياسيين، وكان دولة أبو زيد رحمه الله حريصا على الحضور متى كان موجودا في عمان وليس له ارتباطات رسمية، أو أنه ليس بمعية جلالة الملك أو خارج البلاد بمهمة رسمية.
وأحيانا يكون ذهابي مبكرا لبيت أبو هشام، فكانت أم هشام تجلس معنا، خاصة عندما لا يكون في الجلسة غيري، وبحكم وجودي المتكرر، أراها أحيانا تتابع أخبار دولة أبو زيد على التلفاز أو احدى القنوات الفضائية، وكنت أرى في وجهها فرحة الأم، وملامحها تشعرك أن أبو زيد قد زارها الآن وأنه يجالسها، لكن هي ظروف عمله السياسي تقتضي هذا التنقل وهذا السفر، وأحيانا أجد الحفيد زيدا ابن الرابعة أو الخامسة من عمره بالقرب من جده أبو هشام يداعبه ويلاطفه وهو يتنقل في باحة البيت، وها هو اليوم شبّ وكبر وتقلد الوظيفة في العمل العام، وسيبقى له والده الراحل في الذاكرة الأب القدوة.
وحقيقة أن دولة أبو زيد كان ممن يحترم الرأي الآخر، فهو دبلوماسي، وأناقة السياسي تتمثل فيه، وكان رحمه الله صاحب رأي عميق حينما يتناول موضوعا، وتجده يعرف التفاصيل، لكنه يقدمها بحكمة واتزان، وهو مدرسه فكرية سياسية، قد يتفق معها البعض أو يختلف، لكن يسجل لدولته خبرته فى شؤون الدولة وقدرته التعاطي معها كسياسي وأكاديمي، بحكم قربه من صناعة القرار عند صياغته وتنفيذه.
لقد عاش تجربة سياسية لم يشاركه فيها إلا القلائل بحكم أنه كان حاضرا وشاهدا عليها ومؤثرا فيها، مارس قناعاته السياسية وسط التموج السياسي الذي تشهده المنطقة، وقد بدأ حياته العملية كمساعد لرئيس التشريفات الملكية، مما أثرى شخصيته، وفيما بعد عمله كمستشار اقتصادي حيث عمل مع العديد من رؤساء الحكومات منهم دولة عبد الحميد شرف ودولة قاسم الريماوي ودولة مضر بدران ودولة أحمد عبيدات ودولة زيد الرفاعي واستفاد من قربه لكل واحد منهم بما يصقل خبرته السياسية، وأصبح يعرف لاحقا بـ«رجل المهام الصعبة».
شكل حكومته الأولى عام 1998 وجاء له أمر التكليف بتشكيل حكومته الأولى، بقرار من جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال؛ فحمل فرحته بساعات الفجر الأولى إلى شريكة عمره وشريكة أسراره أم زيد لتكون أول العارفين.
ولم ينسى نشأته في البيت العماني، القريب من الدوار الاول، يجاوره بيت رئيس الحكومة، بهجت التلهوني في الخمسينيات من القرن الماضي، وأيضا منزل نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، عبد الرحمن خليفة، وكذلك منزل السفير السعودي.
أطل دولته بعمر مبكر على كل ما يحدث حوله، من بداية صعود التيارات السياسية والحزبية؛ وصعود للناصرية، وكذلك تصفح الفكر البعثي، وحركة القوميين العرب، والشيوعيين، إلى غير ذلك أيامها.
ليكون فيما بعد على موعد لم يكن بحساباته ليصبح دولة رئيس الوزراء، وتؤدي حكومته اليمين الدستورية، وكان الملك الحسين وقتها يتابع العلاج في مايو كلينيك (روتشستر) في ولاية مينيسوتا الأميركية، ثم وفاته، وما تلاها من نقل للسلطات الدستورية إلى الملك عبد الله الثاني بن الحسين، في واحدة من أكثر الحقب السياسية عسرة وشدة، وقد كان أن أوصاه الملك الحسين بضرورة تولي مهمة نقل السلطة بصورة سلسة وسريعة.
وفي عام2012 شكل حكومته الثانية، وتحديدا في السابع والعشرين من نيسان عام 2012 في عهد الملك عبدالله الثاني وجاء النطق السامي في خطاب التكليف لدولته:
" فقدعرفتك على إمتداد مسيرة عملك وعطائك في سائر الميادين والمواقع التي تحملت فيها أمانة المسؤولية، وكنت على الدوام جنديا من جنود الوطن المخلصين الأوفياء، ومثالا في الإنتماء والحرص على أداء الواجب، والتصدي للتحديات بكل كفاءة وتميز، وبروح من الإيثار والتضحية ونكران الذات، وتغليب المصلحة الوطنية العليا على كل المصالح والإعتبارات. وسيحفظ لك الأردنيون ما قدمت وأعطيت لوطنك طيلة العقود الماضية، وبخاصة في مراحل دقيقة وحساسة من تاريخ وطننا العزيز".
رحل دولة فايز الطراونة، يوم الأربعاء في عمان في 15 ديسمبر 2021 إثر مرض عضال، وترك مذكراته قبل رحيله موسومة "في خدمة العهدين" لتقرأها الأجيال من بعده، ويكون الأردن خسر أحد رموزه السياسيين، وقامة وطنية عرف عنها الوفاء للعرش والوطن، بما ترك من إرث سياسي وتجربة عتيدة، ولعلّ وجود الملك في تشييعه خير شاهد على مكانته، داعين الله المولى عز وجل له الرحمة والمغفرة. وإنا لله وإنا إليه راجعون.