يحمل الحوار المنطقي وتبادل الآراء أيّأ كانت طبيعتها سواء كانت خلافية أو توافقية، الكثير من الأهمية باتجاه انضاج فكرة معينة، وتجعلها أكثر تكاملية وقربا من المثالية، وربما من أبرز أوجه هذه الأهمية أن الحوار يملأ فراغا أو نقصا في مساحة معينة حيال قضية أو ملف أو قانون أو غير ذلك من الأفكار الخاضعة للنقاش والتصويت، وصولا للإقتناع بالرأي الصائب تحديدا لمن يحمل رأيا خاطئا.
ولا شك ان البيئة الحوارية غاية في الأهمية لجهة انضاج أي فكرة يتم طرحها، يتقدّم بها صاحبها بأسلوب منظّم حتى يكون مقنعا، دون ذلك فنحن نتحدث عن كافة أوصاف الحديث باستثناء الحوار.
نعم ، فأسلوب طرح الفكرة سيما إذا كانت القضية التي يتم التحاور بشأنها دقيقة، يجب أن يكون منظما دقيقا يبتعد عن أي نشنّج أو تمترس خلف فكرة بعينها، سعيا لخلق مساحة للنقاش بعيدًا عن التشنج، وصولا لمنتج ثريّ مفيد وليس العكس.
ما حدث أمس في مجلس النواب، خلال جلسة انتظرها الأردنيون، كونها خصصت لمناقشة التعديلات الدستورية التي استلمها المجلس من لجنته القانونية، ليقرر رئيس المجلس المحامي عبد الكريم الدغمي، رفع الجلسة إلى صباح اليوم، وذلك بعد الاشتباك بالأيدي بين نواب، رغم قراره رفع الجلسة لمدة نصف ساعة بعد الفوضى العارمة التي حدثت في العبدلي وتحت قبّة «النواب» تحديدا، لكن للأسف استمرت الفوضى دون توقف بل تطوّرت للضرب وتبادل الشتائم!!.
هذه الفوضى جاءت بعد حديث رئيس اللجنة القانونية النيابية المحامي عبد المنعم العودات عن التعديلات الدستورية، ومع بدء مناقشتها سعيا لإقرار مواد مشروع تعديل الدستور لسنة 2021، وعلنا «بصوت عال» كون المادة 84 من الدستور الفقرة الثالثة، تنص على أنه إذا كان التصويت متعلقا بالدستور أو بالثقة بالحكومة أو التصويت على الثقة بأحد الوزراء يتم التصويت بالمناداة على الأعضاء واحدا واحدا وبصوت عالٍ، وكذلك المادة 81 من النظام الداخلي لمجلس النواب التصويت على الدستور يتم بالمناداة وبصوت عالٍ وتتم الإجابة بإحدى الكلمات الثلاث (موافق أو مخالف أو ممتنع)، وكذلك المادة 81 من الفصل التاسع من الدستور تنص على أن آلية التصويت إذا كان متعلقا بالدستور، تكون بالمناداة على الأعضاء، لذا أخذت الجلسة طابع المناداة بصوت «عال» على النواب، لتكون جلسة علنية بالرأي، وللأسف ما حدث لم يأخذ واقع الحال حالة من الحوار المنظم والمقبول في جلسة ربما هي الأهم بتاريخ المجلس النيابي التاسع عشر، لأهمية ما يتم مناقشته، وأخذ الحوار لمكان أبعد ما يكون عن الحوار الصحيح.
للأسف ما حدث أمس تحت القبة لم يكن قريبا من أي صيغة حوارية سليمة، وابتعدت بيئته عن النموذجية لحدّ جعل الحدث يتسيّد وسائل اعلام عربية وعالمية بصورة سلبية، غير مقبولة، وبعيدة كل البعد عن بيئة الحوار المحلية التي طالما امتازت بمبدأ الاستماع للرأي والرأي الآخر، أيّا كانت القضية، ومهما تعددت الآراء أو اختلفت بشأنها، لذا فإن ما حدث أمس أبعد مبدأ الحوار عن مضمونه الصحيح، فالحوار لا يقف عند حدّ اقناع الآخر برأيك، إنما هو حالة فكرية ناضجة ترمي إلى تخطي عقبات وأفكار غير واضحة أو حتى تخطي سوء فهم بعض الجوانب وصولا لتعزيز التفاهم والتوافق على حالة ايجابية.
ورغم المبادرات النيابية المقدّرة على جميع المستويات لحل الأزمة، إلاّ أن مشهد المشادات الكلامية و»الضرب» الذي رافق الجلسة أمس سُجّل على المجلس وليس له، وشوّه الكثير من مثاليات الحوار، ما نحتاجه اليوم الإلتفاف حول القضايا الوطنية وليس العكس، وتقريب وجهات النظر للصالح العام..
ما هكذا تورد الآراء.