صِغار قلوبنا بيضا...
كنّا صغاراً وأبي يعمل في تجارة الأغنام، وفي يوم (الجلبة) ليبيع ما اشتراه في الأمس؛ ننتظر عودته على أحرّ من الجمر، لعله يأتي لنا باللحمة أو (الجاج) أو الفلافل والحمص، أو خبز السّوق كما نطلق عليه لتمييزه وتفضيله على خبز (الصّاج) الشّراك، واستنتاجاً منّا...؛ نفهم عندما يعود مُحمّلاً أنّه قد ربح في هذا اليوم فأكرمنا، فتعمّنا الفرحة لربحه، وإن عاد فارغ اليدين فهمنا أنّه قد خسر فبخل علينا دون إرادته، فيعمّنا الحزن عليه وعلينا والتّعاطف معه ومع بطوننا...، ومع ذلك كان فرحنا أكثر بكثير من حزننا، أي أنّ ربحه حسب المعادلة الطبيعيّة وفهمنا آنذاك؛ كان أكثر من مرّات خسارته بنسبة كبيرة وعاليه، وكنّا لا ندعو له سوى بالرّبح فنستفيد ويستفيد... .
وفي يوم ما؛ ركضنا خارجين على صوت سيّارته (الرّوفر) ومعلناً عودته، ولنطمئن هل ربح اليوم أو خسر؛ نادتني والدتي فقالت: إن كان يجلب معه أغراضاً فهو خاسر، أمّا إن كان لا يحمل فهو رابح!!! وهنا اختلط عليّ الأمر وحسبت أنّها قد تاهت...، إلّا أنّها تداركت وأشارت لي بأنّها تعي ما تقول، فمن غيرها أدرى بأسرار أبي وصمته؟!
اختلط عليّ الأمر، وأقلقني لدرجة أنّني أصبحت أدعو له بالخسارة لا بالرّبح لكي يعود لنا بما ينشده الطّفل دون تفكير بتوابع أو مسئوليّات، وهكذا إلى أن تجرّأت يوماً وسألته عن هذه المعادلة المتناسبة تناسباً عكسيّاً فقال لي: صحيح هذا ما يحدث وأغلق عليّ أن أفهم لماذا، أو أنّ التّحليل والشّرح أكبر من أن يفهمه طفل بعمري و لا يزال قلبه أبيضاً... أو أنّه أحبّ أن أبحث عن ذلك واستنتجه بنفسي... .
عقب مروري بتجارب مشابهة في صفحات وفلسفة الحياة؛ فهمت لأستدل على أنّ تلك المعادلة لا تعنى ليَ الآن سوى الآتي:
• أغلب الشّجعان والكرماء هم من الفقراء، وأشهر الجبناء و البخلاء هم من الأغنياء.
• ليس كلّ ما تخسره هو ضررٌ لك، وليس كلّ ما تربحه هو لك خير.
• الشّجاعة والبخل لا يجتمعان في قلب رجلٍ واحد.
وإلى كلّ من يتمنى ويقول: (ألا ليت الزّمان يرجع)!؛ أقول: (يالتني أملك الأيّام واتصرّف بها وحدي، واعرف كم بقيلي جراح وكم ساعة هنا عندي...يالتني...)؟؟؟!!!