حسن محمد الزبن - العالم كله الآن يتجه إلى الحدث الأهم صوب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، التي بدأت في طليعة يوم 24/فبراير/2022م، وحينها قلت الحرب ستستمر وستطول، وكان مؤشر الحرب أنها قادمة عندما سبق قيام الروس بإغلاق بحر آزوف والبحر الأسود في وجه أوكرانيا وملاحتها، وعندما أعلن بوتين بتاريخ 21 شباط 2022 استقلال منطقتي " الدونباس ولوغانسك "، رغم الموقف الامريكي وتصريحات بايدن وتهديدات الغرب بفرض عقوبات، فإن هذا يعني أن روسيا كانت عازمة على الهجوم وخوض حربها في أوكرانيا، وكذلك بوتين في خطاب سابق له أكد على قناعة أن "أوكرانيا الحديثة صنيعة روسيا بالكامل"، وأن سيادتها منقوصة، ويرى أيضا إن أوكرانيا تشكل تهديدا، كون أنها " تُستخدم من دول ثالثة لاختلاق تهديدات ضد روسيا"، خاصة بعد الثورة التي حدثت عام 2014م، أعقاب ما قامت به روسيا بضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014م، وأعلنت اوكرانيا تأييدها للغرب بكل وضوح، ويبرر وجهة نظره "مع الأسف بعد الانقلاب في أوكرانيا، لا نرى مثل ذلك المستوى والنوعية من التفاعل مع أوكرانيا"، وسبقها في 2008م، أن دعمت روسيا أيضا منطقتين انفصاليتين في جورجيا، وكذلك منطقة ترانسنيستريا الانفصالية في مولدافيا منذ التسعينات.
ومع هذا فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أكد أنه لا يسعى لاستعادة الإمبراطورية الروسية، وذلك غداة اعترافه بالمنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا وتوجيهه الأمر بإرسال قوات روسية إليهما.
وقال خلال اجتماع مع نظيره الأذربيجاني إلهام علييف في الكرملين: "توقعنا أن تكون هناك تكهنات بأن روسيا تعتزم إعادة بناء إمبراطورية" مضيفا أن "هذا لا يتوافق إطلاقا مع الواقع".
وقال بوتين إن موسكو "تدرك الوقائع الجيوسياسية الجديدة" في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وتعمل مع "جميع الدول المستقلة في فضاء ما بعد الحقبة السوفياتية".
واعتقد أن روسيا ستحقق أهداف هجومها العسكري الذي بدأته، ولن يتراجع "فلاديمير بوتين"، إلا بانهاء حكم "فولوديمِر زلِنسكي" واستبداله بنظام جديد، إذا تمكن من السيطرة على "كييف"، فقد وضع وخبراؤه سيناريوهات الحرب مسبقا، ووضع في حساباته العقوبات والمقاطعة، فقد تعرض لها في عام 2014م، والخطاب السياسي الروسي منذ ذلك الوقت ينذر بما أقدم عليه "بوتين" واصدار أمر الحرب على أوكرانيا بهدف استعادة اوكرانيا إلى أحضان روسيا، وبعثرت الأوراق في وجه امريكا التي استطاعت تعزيز العلاقات الأمريكية-الأوروبية بعد انتهاء الحرب الباردة وكسبها إلى صفها. ومع هذا لن تنتصر امريكا ولا حلف الناتو، وحتى تقارب دول اوروبا لن يفلح في تحطيم عناد بوتين، هذا إذا أقدمت امريكا على الحرب، ولكنها لن تفعل ولن تعلن المواجهة مع روسيا، وستكتفي بالعقوبات الاقتصادية، واستهداف روسيا بانهيارها ماليا، وانزلاقها في ركود اقتصادي طويل الأمد، وضرب قطاع الغاز والنفط لشل الانتاج الاقتصادي والمجهود الحربي الروسي وانهاكه قدر الممكن، ليختار طاولة المفاوضات للتباحث والوصول إلى انهاء الأزمة بقوة الخيار الأمريكي.
لكن ايضا أوكرانيا ودول أوروبا سيعاني اقتصادها انحدارا لا يقل عن انحدار اقتصاد روسيا، لكن ما يُمكّنها للوقوف مدة أطول الدعم الامريكي الغير مسبوق، على الدعم المعتاد سابقا، وهي تجد نفسها صاحبة الفضل في استفزاز الروس واستدراجهم للحرب، وقد وظفت ماكينتها الاعلامية بقوة باتجاه تضخيم عداء روسيا لأوكرانيا، كما فعلت عندما أوهمت العالم أن العراق ونظام صدام يمتلك السلاح الكيماوي المحظور دوليا، ويشكل خطرا فادحا على الأمن الدولي، ودول الجوار.
وآخر ما تفكر فيه امريكا ما تجره هذه الحرب من ويلات على شعب اوكرانيا، ولا يعنيها نزوح الأعداد الهائلة من اللاجئين عن وطنهم ما دامت قادرة على مدهم بالمساعدات والعطف وحق اللجوء الإنساني.
ولا منقذ لأوكرانيا إلا أن تهادن روسيا وتنقلب على رئيسها الذي كان جامحا في عنصريته اليهودية حينما استثنى العالم ودعا اليهود وحدهم للإنتصار له ودعمه في حين أننا العرب تعاطفنا مع شعب أوكرانيا، وأخذتنا العاطفة وانسانيتنا الرافضة لرائحة البارود والحرب، ورائحة الدم وأشلاء البشر، وركام البيوت التي دمرت، انسانيتنا التي ترفض القهر والتشريد واستباحة سيادة الدول والشعوب، فها قد مضى أسبوعين على الحرب وتم نزوح اكثر من مليون ونصف أوكراني على دول الجوار، ودول أخرى من العالم، ولن يتوقف الأمر عند هذا الرقم بل سيتضاعف إلى ضعفين أو ثلاثة إذا ما استمرت الحرب وطالت، وبقيت الأجواء الساخنة واللهب المتبادل بين الطرفين، والغرب لن يتغير وقد كشّفت الحرب أقنعته وعنصريته البغيضة، كما كشف حقيقة الغرب بأكمله في هذا الاتجاه.
وتركيا قررت تفعيل اتفاقية "مونترو" عام 1936م، وأغلقت مضيقي البوسفور والدردنيل، والصين أعلنت التعبئة العامة وتستعد لاحتمالات مفاجئة في الحرب، وتكتفي بالترقب الآن، وهي حليف روسيا الأقوى، وتدعم العلاقة الاتفاقيات الممهورة بينها وبين روسيا منذ سنوات طويلة، وألمانيا تستعد وتعد العدة إذا ما فرضت الحرب، وسويسرا المحايدة لم تعد محايدة، انضمت لحلف العقوبات المفروض على روسيا. ومصر ترفض طلبا امريكيا لها باغلاق قناة السويس أمام الملاحة الروسية، وأمور ومستجدات على كل الصعد توظفها امريكا وتعمل عليها لأجل كسب الحرب.
واليوم امريكا والغرب والحلفاء في وجه المخطط الروسي، تكاتفوا لبناء قوة، تذكرت تكاتفنا نحن العرب!.. وشكلوا أي الغرب وحدة كونية، لفرض العقوبات وإحكام العزل والإغلاق على فلاديمير بوتين ودولته، أوراق اللعبة الدولية الآن تغيرت وأصبحت مكشوفة، فأمريكا تكرس سياستها ونفوذها الجيوسياسي في أفلاكها للضغط الهائل لتنفيذ العقوبات بشدة تجاه روسيا، لأنها لا تفكر بخوض الحرب المباشرة من طرفها ما دام هناك وكلاء ابتداء من الجيش الأوكراني على أراضيه، وغيره من جيوش أوروبية في رومانيا وبولندا وبلغاريا ودول أخرى متاخمة للحدود الروسية، ولا ننسى ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأدوارهم في الحرب.
ولكن هل يقبل الرئيس الروسي التنازل عن أهدافه والموافقة لأوكرانيا بانضمامها لحلف الشمال الأطلسي الناتو، والتنازل عن قضية جزيرة "القرم" عام 2014م، والذي يُصر على أنها أرض روسية ويجب على أوكرانيا الاعتراف بذلك، وهل يتخلى عن طموحه في تفريغ القوة العسكرية الأوكرانية التي تشكل تهديدا.
أعتقد اذا ما حققت العقوبات أهدافها وأدت إلى انهيار الجانب الروسي، حتما سيكون الخيار الوحيد أمام "فلاديمير بوتين" فتح فوهة البركان الروسي وتشغيل أزرار وكبسات اللحظات الحاسمة على الأضطاد، وستكون الحرب الشاملة لتسقط كل استراتيجيات التخطيط الغربي وتحتم على امريكا خوض الحرب مرغمة إلى جانب الوكلاء ومن أنابتهم للحرب عنها وعن مصالحها .
اما اذا دخل الروس واجتاحوا العاصمة "كييف" وتم السيطرة عليها بالكامل ، ونجحوا باسقاط النظام وأصبح أمر اوكرانيا بأيديهم ، فإن خيار الحرب الكبرى (العالمية الثالثة)، بيد امريكا وحدها، فإما أن تقبل بالوضع الذي أصبح واقعا بسيطرة روسيا على اوكرانيا واخضاعها لها، وهنا ستفقد امريكا السيادة على الموقف، وتتراجع هيبتها امام العالم.
وستنتهي الهيمنة الاقتصادية الامريكية التي مورست على دول اوروبا أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، وستنتهي أيضا عن دول العالم العربي الذي خضع لسيطرتها أعقاب الاستعمار الفرنسي والبريطاني في المنطقة وسيبحثون عن مصالحهم بعيدا عن امريكا. سيشهد العالم أقطاب من القوى ولن تكون امريكا هي القطب الأوحد.
ومخطأ من يرى أن امريكا أوقعت بوتين في المصيدة، والهجوم كمصطلح عسكري لم يكن طارئا في عقل بوتين، بل كان وعيا واستجابة وتخطيط لسنوات، حتى قبل أيام من الهجوم الروسي كان لقاء قمة يجمع فلاديمير بوتين والزعيم الصيني "شي جين بينغ" وهذا أسس بقوة لتحالف أقوى من السابق بينهما، ويخدم الاستراتيجية التي يفكر فيها بوتين فيما يخص دخول أوكرانيا وتحديدا امريكا التي لم تعد بعيدة عن حسابات الروس فيما توسعت دائرة الحرب، وسبق للروس بتوثيق عرى الصداقة مع الصين عبر عقدين من الزمن من خلال اتفاقيات اقتصادية متينة ووطيدة، تحصد نتائجها الآن في ظل الحرب والعقوبات والمقاطعة.
لن تمر الحرب الروسية الأوكرانية بدون تداعيات على الغرب أولا، وعلى العالم العربي ثانيا، وسيدخل الاقتصاد العالمي في نفق مظلم، وسيعاني الاقتصاد العربي ركودا على غير المتوقع، وستكون آثاره اشد وطئا مما عانيناه في حربنا على كورونا التي رافقها دعما لوجستيا واقتصاديا وماليا، لكي تقف الدول في مواجهتها، ورُصدت لها ميزانيات عظيمة ، أما هذه الحرب فسيكون العالم الغربي بمن فيهم امريكا في انشغال بما هو أهم فليس في بالهم في هذا الوقت تقديم أي عون أو دعم إلا لما يخدم الجيوسياسي الغربي، وما يضيف قدرات جديدة لترسانتهم العسكرية لمواجهة توقعات قادمة في المستقبل أمام التحدي والعناد الروسي الذي لن يقبل بتجاهل شروطه على طاولة المفاوضات.
الحرب لن تكون تكون كما يتصور البعض، وسيكرس فيها نهج "تكسير العظم"، فمصلحة امريكا اطالة أمد الحرب وهي تدفع بالدول الحليفة لها لدعم اوكرانيا وتستجيب لطلبها بمزيد من المساعدات من الغرب، ولن تتوان امريكا عن امداد اوكرانيا بالدعم اللوجستي والخبرة الامريكية في الحرب من خلال خبراء جيوشها وجنرالاتها، بل سترسل جنودها لتكون قريبة من الأحداث دون مشاركة فعلية على جبهة الحرب، أقلها حتى تفيد مصادرها الاستخباراتية عن معلومات دقيقة تمرر للبيت الأبيض صاحب القرار والكونغرس الامريكي بالتدخل أو ارجاء الأمر، ومع أن هذا غير وارد في معطيات الحرب هذه تحديدا، لأن التعامل مع قوة عظمى بحجم روسيا، ليس سهلا أن تقحم امريكا نفسها في الحرب وجها لوجه، فروسيا ليست أفغانستان أو العراق أو ليبيا أو بلاد الواط واط، أو الواق واق، وإن كان كل الغرب بكل امكاناته لجانبها، وستتغير موازين القوى رغما عن كل الأطراف( فما علا طير إلا وقع)، والمستقبل ستبرهن على أن النتائج في هذا المنحى ستكون.
في الوقت الذي تعتمد فيه دول اوروبا على 40% من الغاز عن طريق روسيا، فإن عليها أن تجد البديل لأن سياسة العقوبات التي تمارس على روسيا ستكون لها ردّات فعل ستؤثر عليها وستأخذ وقتا لتوفير حاجتها من الغاز مصدر الطاقة، وهو ليس بالأمر الهين أو السهل لتأمين النقص من بديل آخر، هذا إذا استطاعت الحصول عليه في ظل اقتصادها الذي تراجع في السنوات القليلة قبل الحرب.
فروسيا تملك سوق الطاقة الأوروبي عبر خط الأنابيب"نورم ستريم2"، وألمانيا أول المستفيدين من هذا الخط كدولة أوروبية، وامدادات الطاقة لن تكون بالمستوى الذي كان قبل الحرب، واذا كان الغرب يرى بديلا عن روسيا، فالأمر فيه صعوبة، ولن يكون بنفس الكميات التي كانت تحصل عليها من روسيا، وإن كان الغاز متوفر في قطر والجزائر والسويد، وهي بأفضل الحالات لن تخدم الغرب بقدر الكميات التي كان يحصل عليها من مصادر الطاقة الروسية.
لقد وصل سعر برميل النفط بعد اسبوعين من الحرب على 160 دولار، ولن يقف عند هذا الرقم بل سيرتفع إلى أعلى معدلاته في ظل استمرار الحرب، وكما هو الحال بالنسبة للنفط فإن الحال لن يكون أفضل بالنسبة لسلة الغذاء العالمية التي أهمها الحبوب من قمح وشعير ، وكذلك الزيوت النباتية، والمواد الأخرى المساهمة في التصنيع الغذائي.
تعتبر روسيا واوكرانيا من اهم الدول المنتجة والمصدرة للعالم الغربي والعالم العربي لهذه المنتجات، مما يعني تضخما كبيرا سيطرأ على أسعار الغذاء، فهناك من قطاع الانتاج من سيصمد في وجه الحرب إلى وقت معين، وقطاع آخر فضل الهروب مبكرا ومغادرة اوكرانيا وروسيا بحثا عن الأمان الاقتصادي في مكان آخر، تاركا وراءه خطوط انتاج ضخمة وشركات عملاقة كان لها دور في رفد السوق العالمي بما تنتج.
ستتوالى الخسائر الروسية، وترتفع تكاليفها في ظل الحرب بمئات الآلاف من المليارات، ويقدر بعض الخبراء حسب موقع Consultrancy أن تتجاوز التكلفة اليومية للحرب بالنسبة لروسيا 20 مليار دولار مع استمرار تصعيد الحرب، والحرب كما نعرف قد تطول، والتقديرات للخسائر تطول أيضا.
مع العلم أن روسيا لديها من احتياط النقد ما يقارب 680 مليون دولار، ورغم العقوبات التي تُمارس عليها، لم توقف ضخ الغاز والنفط الروسي، ولا المواد الخام إلى دول العالم ولم تلغي أو تهمل التعاون الاقتصادي، لأنها إن فعلت فإن ضررا مضاعفا يقع عليها، وهي بأمس الحاجة لزيادة الاحتياطي من الدولا واليورو لديها، وأكثر من ذي قبل بحاجتها لتماسك اقتصادها وقوته، وبالمقابل خسائر اوكرانيا ودول اوروبا ستكون كارثية أيضا.
والعالم العربي والاسلامي أمام وضع جديد، واسرائيل أمام استحقاقات قادمة طال انتظارها من الشعوب العربية، وعليها دفع فواتير الظلم والقهر والاحتلال الجائر والاعتداء السافر عبر سنوات طويلة من نزف الدم الفلسطيني والعربي وهي بداية النهاية المحتومة لزوال دولة اسرائيل.
وسيدرك العرب متأخرين ما صنعته امريكا من تخريب في عقولهم وما حلّ على فلسطين وأهلها على امتداد سنوات طويلة وامريكا تقدم الدعم بكل أوجهه لاسرائيل، ومن تجاهل لما لحق بالعراق وافغانستان وسوريا وليبيا واليمن وغيرها من دول العالم.
وعلى العرب أن يُحسنوا التفكير ، ويتقنوا فن السياسة، أمام أقطاب تتنازع على النفوذ وقيادة العالم، والنتائج ليست محسومة، والغرب بأكمله يخضع لاختبار قاسي، وصراع يحتدم أكثر مع المستقبل، ويأخذ ابعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، ويشكل صدام حضارات، وأعتقد أن اوروبا ستشهد تفسخا لم تشهده منذ زمن طويل، مما يقودنا للقول أنها ستتقوقع على نفسها وسيتوقف مع هذا الوضع برامج كثيرة كانت تُقدم في العالم العربي.
لذلك على العالم العربي أن يشرع من الآن في دراسة بدائل وبناء استراتيجيات لإدارة الأزمات المتلاحقة التي سيتعرض لها أمام تبعات هذه الحرب البعيدة، لكنها تصيب عمقه الداخلي، خاصة أنه كان يعتمد على المساعدات والهبات والقروض الخارجية في فترة ما قبل الحرب، فما بعد الحرب يقلب كل الموازين ويغير كل المعادلات، وتصبح الخيارات عبر قنوات ضيقة، والاحتمالات مفتوحة لما يمكن التنبؤ به، ولا بدّ من صحوة عربية ويكون رهان مشترك كيف نتجاوز ما قد يعصف بنا، وأن لا نراهن على من يمكن أن يكون هو الرابح الآن، أو من هو الخاسر غدا.