عبدالهادي راجي المجالي - الشعوب في العالم تعرف ذاتها, وجزء من أزمة أوكرانيا يكمن في اختلال بوصلة الذات.. هي لم تعرف نفسها بشكل سليم, انسلخت من (اوراسيا), وذهبت باتجاه أوروبا.. انسلخت من الجغرافيا, من القيم الاشتراكية... من الموروث الحضاري والعرقي, والأخطر أن الناس ظنوا في لحظة أن أوروبا ستقبلهم... لم يستطيعوا في النهاية أن يكونوا الجزء الأكبر من أوروبا.. ولم يدخلوا حلف الناتو, ولم تسندهم بندقية غربية.. ولم تدخل أوروبا الحرب معهم.
في العالم أزمة تعريف الذات مهمة وخطيرة, هي تعدت الأفراد لكي تكون أزمة دول أيضا.. فـألمانيا الحيادية, نتاج مشروع مارشال وعبقرية (كونراد إديناور).. اكتشفت بعد أكثر من (70) عاما من انتهاء الحرب العالمية الثانية, بأنها عارية تماماً.. هكذا قال وزير الدفاع... حين سأل عن قوة ألمانيا في مواجهة الروس, وبالتالي استدركت مسألة الذات والشخصية.. وخصصت (100) مليار لإعادة بناء جيشها.. في النهاية المرسيدس قصة اقتصادية ولكنها لا تنتج كرامة الأمم, من ينتج الكرامة فقط البندقية والقوة..
أكثر من اهتم بتعريف الأردن هو وصفي التل... للأسف لم يُقرأ وصفي بشكل سليم, هو مثلاً من أنتج سلطة وادي الأردن, وانتج المجتمعات الزراعية... هو من قال إننا نملك خط بارليف الطبيعي متحدثا عن السلسلة الجبلية الممتدة من أقصى الشمال حتى الجنوب... هو من قال أيضاً: لا يوجد قضية مركزية اسمها فلسطين بل يوجد عدو مركزي اسمه إسرائيل.. وفي معرض تفسيره لهذه المقولة كان دائماً يؤكد: أن تغليب القضية على العدو يعني البحث عن حلول.. ولكن تغليب العدو يعني ترسيخ فكرة الحرب في الذهن.. هو مثلاً من أنتج البيروقراط الصارم.. وهو من عرف الشخصية الأردنية, صهرها في الإطار السوري... وصنفها بأنها الشخصية القومية المقاتلة.. كان يؤمن بأن دمشق هي ثقل العالم العربي...
الحرب في روسيا تعلمنا أن نعرف ذاتنا بدقة, أوروبا مثلاً بعد الحرب العالمية الثانية تخلت عن القوة واتجهت للاقتصاد... وحين حدثت الحرب في أوكرانيا, على الفور ارتمت في الحضن الأميركي لأنها عاجزة... هذا ما قاله (سيرغي لافروف) حين وصف قادتها بالدمى الذين تحركهم أميركا, بالمقابل الصين لم تنزع الشيوعية عن كتفها.. ظلت ملتزمة بحكم الحزب الواحد والفرد الواحد.. وانتجت ثورة اقتصادية هائلة... لكن الشخصية الصينية لم تتغير أبداً, الذي حدث أن المباني والمنشآت تغيرت, بالمقابل ظل العقل الصيني مجبولاً على الطاعة والانتماء للحزب, وخدمة الدولة..
الاقتصاد الروسي بمجمله, هو بحجم اقتصاد ولاية كاليفورنيا... ولكن روسيا قوة وشخصية روسيا هي ثقافة, والفرد الروسي خلق في العالم قائداً ولم يخلق تابعاً... والذي فعله بوتين في إعادة إنتاج هذه الدولة, أنه قرأ شخصية الروسي جيداً وتماهى معها.. بالمقابل في أميركا يتحدثون عن قيم الحرية والسلام والديمقراطية, لأنهم يدركون جيداً.. أن العراق إن دمرت دبابة فيه فلن يحصل على غيرها, بالمقابل روسيا تستطيع انتاج (7) دبابات بدلاً من الدبابة الواحدة... ويدركون أيضا أنهم لن يقاتلوا جيشا إذا دخلوا المعركة, بل سيقاتلون شخصية شرسة مستقلة لها إيقاعها وقيمها وموروثاتها..
الحرب في أوكرانيا تدفعنا جميعاً لأن نعيد النظر في أنفسنا كشعب وكأمة.. ونعود لوصفي التل كي نفهم كيف قرأنا, وكيف قام بتعريفنا... وهذا لا ينطبق على علينا بل على العالم العربي بمجمله.
Abdelhadi18@yahoo.com