زاد الاردن الاخباري -
بغض النظر عن كيفية تحليل سياسة الصين في أزمة أوكرانيا والحرب وعلاقاتها مع روسيا، فثمة شيء واحد واضح وهو أن فلاديمير بوتين نجح في فترة قصيرة في تحويل نفسه من ذخر إلى عبء، ومن أداة سياسية ناجعة إلى مشكلة لم تتوقعها الصين. بالنسبة لها، بوتين نفذ تدميراً للذات مدهشاً وأمام الجميع، وهذا ليس بتطور تقبله بكين أو تتفهمه أو تتسامح معه.
في 4 شباط كان بوتين ذخراً، عندما وقف مبتسماً بعد التوقيع على اتفاق تعاون استراتيجي، بجانب الرئيس شي جين بينغ، الذي أعلن بأنه “لا حدود” للصداقة بين الدولتين. بدون تحالف واضح أو تنسيق سياسي مفصل، فإن بكين وموسكو شريكتان استراتيجيتان في حملة لتغيير بنية النظام العالمي المنحاز لصالح الولايات المتحدة. تقدر الصين أنها دولة عظمى في طور الأفول، وأن بنية المنظومة الدولية لا تعكس التغييرات بشكل صحيح. الحديث لا يدور عن قصة غرام بين الصين وروسيا بالتأكيد، وليس بأخذ التاريخ بينهما في الحسبان، بل بشراكة مصالح جوهرية يجب استخلاص الحد الأقصى منها في الطريق إلى قبول الصين كدولة عظمى شرعية.
في 22 شباط عندما أعلن عن ضم فعلي لـ “جمهوريات” دونيتسك ولوهانسك في شرق أوكرانيا، كان بوتين ذخراً. حسب كل الدلائل، لم تقدر الصين بأن نيته غزو كامل، وأن وجهته الحرب. لقد اعتبر كمن يهدد ويتخذ سياسة العتبة، التي تهز حلف الناتو وتلقي شكوكاً بخصوص السياسة الأمريكية التي ستكون مترددة ومتصالحة. هذا أمر خدم الصين التي تعتبر المنافسة مع أمريكا لعبة عالمية مجموعها صفر.
في 24 شباط عندما غزت روسيا أوكرانيا، بدون تحذير أو إعلان مسبق لصديقتها الصين، “التي لا حدود لصداقتهما”، هبط بوتين درجة في التصنيف الائتماني، واعتباره ذخراً أصبح محل شك. قدرت بكين أن الانتصار الروسي سيكون سريعاً وحاسماً، وأن الحكومة في أوكرانيا ستسقط أو تهرب إلى المنفى، وأن بوتين سيدير من هذه النقطة مفاوضات مع الناتو والولايات المتحدة حول نظام أمني جديد في أوروبا. كانت الرؤية أنه إذا نجح ذلك بالإمكان استنساخ هذا النموذج إلى شرق آسيا مستقبلاً، وترسيخ منطقة نفوذ صينية واضحة في بحر الصين الجنوبي وحول تايوان. أدركن بكين أنه يجب التسلح بالصبر وترقب كيف ستتطور الحرب.
في 1 آذار، كان بوتين في منتصف الطريق من كونه ذخراً إلى عبء. روسيا واجهت فشلاً عسكرياً متعدد الأبعاد، وعزلة سياسية، ومنظومة عقوبات شاملة وعميقة فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وسنغافورة وتايوان على اقتصادها. بدأت الصين بعملية إعادة حسابات بشأن الثمن الذي ستضطر لدفعه عن علاقتها مع روسيا، مجرد الوقوف إلى جانب هذا الذخر، بوتين، سيحول بكين إلى شريكة بالقوة في الجريمة. ومثلما لم تتوقع الغزو الروسي، لم تتوقع الصين قوة رد الغرب ووحدة صف الناتو وتصميم الولايات المتحدة.
في 18 آذار، اليوم، أصبح بوتين عبئاً واضحاً وضاراً. الصين منشغلة في تقليل الأضرار ومحاولة بلورة سياسة تفيدها في الظروف الجديدة، وعلى الأقل لن تضر بها. القضية أن تشكيل وصياغة سياسة جديدة منظمة ليست أمراً سهلاً أو سريعاً. في الوقت الذي تعيد فيه بكين تقييم الوضع وسياستها، وتحاول حساب البدائل التي أمامها، تمارس الولايات المتحدة الضغط.
عقب محادثة مطولة، كما يبدو غير لطيفة، في روما بين مستشار الأمن القومي الأمريكي جايك ساليبان، ويانغ جياتشي، وزير الخارجية الصيني السابق والآن هو عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، سرب الأمريكيون بأن بكين تفحص كسر نظام العقوبات وتوفير أنبوب أوكسجين مالي وسلاح لموسكو، وأنها بذلك ستعرض نفسها لعقوبات ثانوية. كان الهدف إحراج الصينيين واستخراج نفي منهم. هذا في الحقيقة تم نشره، لكن لشي جين بينغ اعتبارات سياسية وداخلية، ولن تظهر الصين كمن تغير سياستها نتيجة ضغط وتهديد أمريكيين.
بين معضلة ملقا ومعضلة بوتين
هذا بالضبط ما هدفت إليه المكالمة الهاتفية المخطط لها اليوم بين الرئيسين الأمريكي والصيني. فمكالمة هاتفية ليست وسيلة مهمة لتغيير سياسة، لكن إذا قدم بايدن شعوراً لشي جين بينغ بأنه -رغم العداء بين الدولتين- لا يجب أن يكون هناك عداء، لأن الطريق نحو التدهور المستقبلي من هذا الباب ستكون قصيرة. وإذا أوضح بايدن أن الثمن الذي يريده من أجل هذا الفهم هو الامتناع عن مساعدة هذا المنبوذ العالمي، بوتين، فإن جين بينغ، ربما يصغي؛ لأنه بات يعرف مدى تحول الرئيس الروسي إلى عبء.
من ناحية الصين، هناك حاجة إلى الموازنة بين المعضلتين، معضلة “ملقا” ومعضلة بوتين. في 2003 قال الرئيس الصيني في حينه، هو جنتاو، إن للصين اعتماداً كبيراً على استيراد الطاقة والغذاء ومكونات صناعية وتكنولوجية، لذا فإنها معرضة لإغلاق أمريكي لمضائق ملقا التي تقع بين إندونيسيا وماليزيا، والتي يمر عبرها معظم الاستيراد الحيوي لبلاده. الصين 2020 أقوى بما لا يقاس بالصين 2003 وما زالت معضلة ملقا تقف في أساس سياسة الأمن القومي في علاقتها مع أمريكا.
معضلة بوتين واضحة؛ روسيا شريكة في تحدي النظام العالمي الأمريكي، وهذا انعكس على الردود المتناقضة والمشوشة التي أصدرتها بكين في الأيام الأولى للغزو. قد نفهم الحرج، لكن الصين لم تتسامَ، وتتصرف كدولة عظمى تطرح نفسها بديلاً لاستقرار الولايات المتحدة وازدهارها.
قاموس الردود يحمل ازدواجية في المعنى؛ الصين تدين العدوان لكنها تقف وراء روسيا، تدعو إلى الحفاظ على الوحدة الجغرافية لأوكرانيا لكنها لا تنتقد موسكو، تدين العقوبات المفروضة على روسيا ولكنها تعطي إشارات بأن شركات صينية ستتمسك بها، الصين ستساعد روسيا لكنها تنفي ذلك.
في حين أن معضلة ملقا هي في أساس العداء والقلق من الولايات المتحدة، فإن معضلة بوتين ليست فقط حول كونه عبئاً، بل ترتبط أيضاً بالمفاجآت الاستراتيجية التي وضعها غزو أوكرانيا أمام الصين، وتقديرات بوتين الخاطئة: توحيد الصفوف في الناتو، قدرة أمريكا على إدارة سياسة خارجية ناجعة تقوم على تحالفات وعمق اختراق المخابرات الأمريكية لروسيا. من وجهة النظر الصينية، كل ذلك يعمل ضدها.
تقف أمام الصين في هذه الأثناء خيارات أساسية. الخيار الأول هو الانفصال عن بوتين، بالتدريج وبشكل لطيف، لكن مع تصميم لا يرحم. الحلف غير الرسمي وعديم العاطفة مع بوتين لا يشعل سياسة أمريكية مناهضة للصين فحسب، بل يعزز منظومة التحالفات التي تبنيها أمريكا في حوض المحيط الهادئ وتثير قلقاً في دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية في شمال المحيط الهادئ، وحتى في ماليزيا وإندونيسيا في الجنوب، وتايوان في الوسط.
الخيار الثاني هو موقف هادئ وغير استعراضي إلى جانب روسيا، الذي ينبع من رؤية المجموع الصفري للعلاقات مع أمريكا. هذا سيصعب على الاقتصاد الصيني واعتماده على الغرب، وسيحول القلق من الصين في آسيا إلى خوف ملموس. هذا التطور سيسهل على أمريكا بلورة التحالفات التي تبنيها مع أستراليا وبريطانيا واليابان والهند وكوريا الجنوبية.
والخيار الثالث هو الوقوف جانباً أو فوق المواجهة. وهذه سياسة تعتمد على رؤية تقول بأن هذه حرب بين دولتين عظميين آفلتين، وأن الأزمة نفسها تسخر طاقات أمريكا ومواردها واهتماماتها لأوروبا، وهو الأمر الذي يلغي أو يبطئ استراتيجية “الانتقال إلى آسيا” للسياسة الخارجية الأمريكية.
قد تكون الصين مخطئة في هذين التقديرين؛ فالغزو الروسي يتسبب بزيادة الإنفاق على الأمن في أوروبا، الأمر الذي يقلل الحاجة إلى تدخل أمريكا.
القرار الذي يقف أمام جين بينغ، الذي قد ينتخب لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات، غير سهل، وهو نفسه غير محصن من الانتقاد. إذا اعتبرت الصين نفسها دولة عظمى، فلا تستطيع التهرب من ذلك.