عملتُ بضراوةٍ شديدةٍ في الصحافة، بدأتُ في صحيفة الأخبار التي كان مديرها العام الشاعر عبد الرحيم عمر، الذي قال لي بعد أن لاحظ إنتاجي وانصرافي الكليّ إلى العمل: «أنت يا محمد.. تتمتّع بضمير مهني لم أعهده في أحدٍ غيرك».
جملة عبد الرحيم عمر تلك، تصلح موسوعة في متطلبات التحفيز، فتلك الجملة البسيطة دفعتني إلى المزيد، إنَّ احتفاظي بجملة عبد الرحيم عمر إلى اليوم، دليلٌ على أنَّ التقدير المعنوي الذي لا يكلّفُ فلساً واحداً، يدوم وقد ينتج عنه عطاء لا يقـدّر بمال،
أتقنتُ كلَّ مراحل إنتاج الصحيفة، ازدادت قدرتي على الدقة والتنظيم والإتقان، ورغم أنّني كنتُ سريعاً ومنظّماً ودقيقاً جدّاً، ومُتْقِناً بلا تردّد، إلّا أنّني واصلتُ الضغط على طاقتي إلى أن أصبحت خبيراً ومعلماً بشهادة كلِّ مَـنْ عملتُ معهم.
كنتُ أكتب مقالة يومية بعنوان «عرض حال»، وقد تــمَّ منعي من الكتابة وفصلي من العمل ولم يكن في جيبي ثمن علبة حليب لابنتي عدن، ولا أجرة المنزل التي كانت ستين ديناراً.
كان إبراهيم حماتي صاحب المنزل الذي أستأجره شديد الحرص، يحسبها بالفلس ويحاسبني على الفلس، طرق باب منزلي مساءَ نفس اليوم الذي فُصِلت فيه من عملي، واستأذن في الدخول قائلاً: «سمعتُ أنّك فُصِلت من عملك».
قلتُ: صحيح أخ إبراهيم، اطمئن ولا تقلق على إيجار المنزل، كما أنَّ موعد دفع الإيجار لم يَحِنْ بعدُ، فنحن ما نزال في منتصف الشهر.
قال :اسمعْ يا جار، لا تقلق من أجرة المنزل على الإطلاق، لن أطلب منك الإيجار حتى لو بقيتَ مفصولاً خمس سنوات وأكثر.
أجبته مندهشاً: بارك الله فيك، فهذه شهامة في وقتها.
اتصل بي عـز العرب أبو العينين، محاسب صحيفة الأخبار، قائلاً:» الفول في انتظارك أستاذ محمد، تعال نفطر معاً». وقبل الإفطار ناولني المحاسب راتبي كاملاً.
قلتُ لنفسي:» إنَّ هذا المبلغ هو أجرة نصف شهر، وبدل إجازات نصف شهر»، دخلتُ إلى مكتب فؤاد سعد النمري صاحب الصحيفة، الذي استقبلني بحماسة ملحوظة، قال وهو ينظر إليّ بمودةٍ عارمةٍ، وتعاطفٍ مكشوف:
«اسمع يا محمد، سيظلُّ راتبك الشهري سارياً إلى أن تعود إلى العمل، مهما طالت المدة، إنسَ موضوع الراتب كلياً».
شكرته مستغرباً من الذي يحدث، فالرجل هو أيضاً شديد الحرص على المال ويحسبها بالفلس.
تنفسّت الصعداءَ، وغمرني ارتياحٌ لا أستطيع وصفه، قلتُ لنفسي: «ما أجمل النزاهة !! وما أرقى شعبنا وبلدنا !! يستحقُّ هذا الأردن الزاخر بالخير والشرفاء، أن نحبَّه وأن نغار عليه، وأن نسعى إلى أن يصبح أفضل».
- (مقطع من كتاب «من الكسارة إلى الوزارة» - صفحة 150).