الدكتور المهندس أحمد الحسبان - نحن نعيش بالعالم الافتراضي منذ الستينيات من القرن المنصرم، وليس منذ ولادة الفيس بوك قبل نحو عشر سنوات؛ هذه فرضية غريبة نوعاً ما، ولكني سأحاول اثبات صحتها في السطور القليلة التالية؛
درسنا في الجامعة - بداية التسعينييات - في مادة المجتمع الاردني كمتطلب جامعة اختياري، ان المجتمع الاردني يختلف عن غيره من المجتمعات المجاورة، لانه يرتكز في بنيته الاجتماعية على ثلاث ركائز/ مقومات، وهي الجاه والسلطة والمال، فمن يمتلك إحداهن - على الاقل - يستطيع العيش في أمن اجتماعي كافٍ لأسرته ومستقبلهم، حسب البروفسور مدرس المادة وقتذاك، وحسب نظريات الباحثين والمفكرين في علم الاجتماع المحلي، والذي اعجبني البحث فيه لقربه من علم الاتصالات الاليكترونيه، وتشاركهما بكثير من النظريات العلمية المتشابهة، وقال ايضا؛ ان من لا يمتلك منها شيئاً سيفتقد ذاك الضمان الاجتماعي مالم يرتبط وثيقاً بمن يمتلكها، ليستمد منه بعضا من تنفيعاتها، وأضاف انها لا تجتمع الثلاثة الا في عدد قليل من نخبة الشعب، وذكر منهم وقتذاك اثنان، لا يزالان على قيد الحياة، وربما اصبح عددهم اكثر الآن، ولكن نجماهما سطع وقتها مبكراً، فقلما تجد ابن شيخ ذا جاه، ويمتلك المال الوفير، وله من السلطة والنفوذ في الحكومة ومناصبها باعٌ طويل، ولكن لندع جانبا هؤلاء القلة من نخبة النخبة، ونركز على الذين يتمتعون باحداهن او باثنتين فقط على الأكثر، ولنسقط فرضيتنا هذه عليهما، ونرى ماذا ستكون النتائج.
قيل قديما ان كلام القرايا يختلف عن كلام السرايا، فمنذ بدء نشأة المجتمع الاردني وهو يقوم على العشائرية وما يتبعها من شيخة وجاه، ولا زال طبعاً، بدليل جهوية الترشيح للانتخابات البلدية او النيابية، حسب العشيرة والدور بينهم، وهذا لا يخفى على كل من كان عمره فوق ال ١٨ ممن يحق لهم الانتخاب، اذن فمعظم البالغين - شاملا الراشدين - ينتخبون حسب مرشح العشيرة وليس حسب الكفاءة، أو لا ينتخب بتاتاً، فالكفاءة اذن عالمٌ افتراضي، نحب العيش فيه، ولكنه ليس حقيقيا، بل هناك عالم واقعي غيره، مفروضاً علينا باحكام مطبق، ومن قبل انفسنا وليس من قبل اي أحد آخر، يصعب معاكسة تياره الهادر، وهذا ما لا يحدث في دول الجوار، لأن عشائرية مصر مثلا تنحصر في الصعيد فقط، ولسوريا في الجنوب فقط، وفي لبنان تكاد تنعدم، وفي العراق ثلاثة طوائف، وفي فلسطين اقل من ذلك بكثير، لذا لا نجد قيمة لأهل العلم والدرجات العلمية في مجتمعنا بقدر تلك القيمة المعطاة لأحد حاملي أحدى هذه الركائز، ولا حتى نصفها ولا ربعها، وهذا الدليل الاول على وجود العالم الافتراضي الذي نعيشه منذ ردح من الزمن غير قليل، وقبل الفيس بوك واخواته.
الدليل الثاني، من يريد ان يخطب لابنه عروساً مثلا، او ينطق باسمه وبموافقته عندما يزوج ابنته، يلجأ لشيخ العشيرة ليمثله بذلك أمام الناس، ومنذ سنين طويلة، ولا يلجأ لذوي الكفاءة مثلا وان علت درجاتهم العلمية، على العكس مما يحدث في دول الجوار، حيث يطلب الرجل فيها لابنه بنفسه، ويعطي لابنته كذلك، دون الحاجة للشيخ ذي الجاه، وهذا عالم واقعي نعيشه، ونطبقه بحياتنا الطبيعية وقت حدوثه وعلى كل المستويات، دون الانتباه لأي اعتبار آخر غير الجاه، كلامي هذا وصف حال وليس تنقيصا لقيمة شيوخنا الاجلاء، ولكن فيما عدا ذلك، فنحن نعيش بعالم افتراضي اذن، كلام قرايا وليس سرايا، وهذا دليل آخر على صحة الفرضية. وينطبق على خطبة العروس ما ينطبق على الجاهات والعطوات بأنواعها والصلحات والجلوات في حال نشوب اختلافات دامية لا سمح الله ، دون اللجوء لقوانين الدولة الناظمة للحياة الاجتماعية كما في مجتمعات الجوار وغيرها، وهذا دليل ان هناك عالمين بداخل كل فرد من المجتمع، يتصارعان بين الاستقلالية من جهة، وبين التبعية وفقاً لتلك الركائز الثلاثة من جهة اخرى، احدهما افتراضي حتماً، والاخر واقعي مطبق، ومنذ القرن التاسع عشر المنصرم، وليس للفيس بوك دور في ذلك، اذ لم يكن موجودا آنذاك.
عندما يريد احدهم توظيف ابنه في دوائر الحكومة، او تأمين مقعد جامعي - سابقا، يلجأ للشيخ، لتأمينه بذاك المقعد الجامعي من مخصصاته، ثم تطورت الامور لكوتة ابناء العشائر رسمياً، واما التوظيف فيتم غالباً بالواسطة عن طريق احد النخبة من ذوي الجاه او المال او السلطة او بالكوتات، بدليل غياب دور ديوان الخدمة المدنية الفعال وغير الفعال، وتلك المحسوبية متفشية بالمجتمع لا يختلف عليها اثنان، ولطالما نادى سيد البلاد أطال الله في عمره بمحاربتها، وشكلت هيئة مكافحة الفساد لهذه الغاية، ولا نرى مثلها بدول الجوار، فهناك دور طويل للتوظيف في مصر، ولكنه متبع، وكذلك في سوريا ولبنان وغيرهما، اذن نحن نعيش في عالمين منذ بدء خليقة المجتمع الاردني، عالم واقعي بالمحسوبية لذوي الجاه او المال او السلطة، نلجأ اليه وقت الجد لتأمين متطلبات الحياة الاساسية كالوظيفة في القطاعين، وآخر افتراضي مثالي بدونهما، ولكنه غير محسوس ولا موجود ولا متبع، تماما كعالم الفيس بوك الاليكتروني حاليا، نلجأ اليه وقت اللهو والهزل وتضييع الوقت فقط، وتزداد فيه نبرة المثالية، والميل للحد الاعلى من الصدق الافتراضي، وللحد الادنى من الواقعية الصادمة، وهذا دليل ثالث.
لن اقول ان هناك امثلة كثيرة، لكن اقول ان الثلاثة السابقة فقط تكفي لاثبات وجود افتراضية الحياة بمعزل عن واقعيتها، فالكل يعترف ان المجتمع المدني لا يقوم على العشائرية اطلاقا، وان السلطة تكليف وليس تشريف، وان المال تصريف وليس تكنيز، والا لما كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة ذات بطون قريش المتجانسة، الى المدينة المنورة ذات الاصول غير المتجانسة عشائريا ولا دينيا، الاوس والخزرج واليهود، فمن هناك قامت الدولة المدنية، وكان الاساس بالأفضلية للتقوى فقط، وليس للعرق ولا الاصل ولا العشيرة ولا للمال او السلطة، على خلاف ما حدث في مكة، التي صدق - بتكذيبها للرسول - قول الشاعر؛ وما انا الا من غزية ان غوت غويت وان ترشد غزية ارشد، لاجتماعهم على عزة الذنب، والرأي الواحد الخاطئ غالباً، فحيثما تواجد الاختلاف بالاراء كان التطور والحداثه والمدنية، وحيثما تواجد التجانس فيها، غابت وتراجعت، لانعدام الرأي والرأي الاخر، والاتفاق على ما اتفقت عليه غزية تلك، فيظهر وقتها مفهوم التعايش بين العالمين المتتاقضين؛ الداخلي الافتراضي الذي ينادي بالاحتكام للكفاءة والعلم والاستقلالية، والخارجي الواقعي الذي ينادي بالانخراط مع نخب الجاه والمال والسلطة - مهما ضحل علمها وزاد جهلها - لتحقيق غايات يصعب تحقيقها بالكفاءة والعلم والاستحقاق الادائي. وكل هذا قبل الفيس بوك وأخواته.
مقصد القول، اذن، كنا ولا زلنا منقسمين على ذواتنا، نعيش الدورين، الحقيقي والافتراضي، ومنذ القرن الماضي، وما اضافة الفيس بوك الا لاضفاء الشرعية الاليكترونية بمداها الرحب على ذلك المفهوم، فهو لم يأت بجديد، بل غير شكل التعبير، من كلام قرايا ومجالس التعاليل العشائرية والقروية المغلقة، الى صفحات اليكترونية فقط، يشارك بها الجميع بما يفكرون، لا بما يعملون، وعندما يحين وقت العمل لضمان اجتماعي آمن، نرتكز على من بيدهم مقومات الجاه والمال والسلطة فقط، خلافا للمجتمعات المجاورة، لذا تراهم لا يكترثون بالفيس مثلنا، الا بما يصب بمصلحة اعمالهم وتجارتهم واعلاناتهم، او ذكرياتهم وتوثيقها بالصور، لان عوالمهم الافتراضية والواقعية متشابهة تقريبا أصلا، فمجتمعاتهم مختلفة عن مجتمعنا، هي تسودها الاستقلالية النسبية عن سيادة الجاه والسلطة والمال - التي نعاني نحن منها ونحتاجها ونستعملها في ذات الوقت، فنذمها سرا وافتراضاً، وننعم بها ونستخدمها جهرا وواقعاً، وكل هذا قبل ولادة الفيس بوك أصلاً، اذ لا ذنب له في عالم الافتراضية مفهوماً ومنطلقا، بل جاء ملامساً لشغاف قلوبٍ اعتادت العيش في العوالم الافتراضية منذ نشأتها.
خلاصة القول؛ هذا وصف حال فقط، وتشخيص قد يصيب او يخطئ، ولا حلول له تستحق الذكر، لان هذا هو حال مجتمعنا، لا نستطيع ان ننسلخ عنه قيد انملة، ومنذ زمن الاباء والاجداد، ولن يتغير كليا ابدا، قد يكون هناك بعض التغييرات الطفيفة في كبريات المدن، لاختلاف التجانس الديمغرافي فيها عن صغرياتها والقرى، ولكن السمة الغالبة للسواد الاعظم هي كما هي، لا تغيير يلوح بالأفق، ولسنوات طوال قادمات. لذا فإن صحت هذه الفرضية، فلننوخ ركاب افكارنا عند هذا الحد، ولنحياها - تلكم الحياة - كما عاشوها من قبلنا، على ارضنا، بمائها وهوائها الجميلين، وبعالمين مختلفين، أمرهما مر، وأحلاهما حلو، هذا ما وجدنا عليه آباءنا والجدود، وانا على دروبهم تلك لسائرون.
دكتور مهندس أحمد الحسبان