مع هيمنة الواقع الافتراضي الذي أخذ سمات الواقع الفعلي في كثير من خصائصه، ومع سهولة الولوج والوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي تعددت وتنوعت حتى أصبح كل فرد بمثابة محطة إعلامية إلكترونية بحد ذاته، ويستطيع أن ينشر المواضيع المكتوبة والمسموعة والمرئية في أي وقت وأي مكان وبأية هيئة لها. وحيث أن الفضاء الرقمي ليس بالسذاجة التي يعتقد بها البعض، فهو يقوم باستدراج الزبائن المستهلكين المنتجين وبالمجان، ليصبحوا أدوات ترويج ودعاية وتسويق في الفضاء الرقمي، وطبعا يتم تنجيم العديد منهم في سبيل إيهام الجمهور بإمكانية تحصيل مكاسب مالية كبيرة بجهود بسيطة عبر تأدية مهام أو إنشاء محتوى معين يدر عليه المال الوفير.
إن الغاية الوحيدة لتلك المواقع تتمثل في حصد واستقطاب المتابعين ومن يسمون بالفانز والفولورز بغية تحقيق أكبر عائد مادي، فتصبح الوسيلة أيا كانت ليست ذات بال أو قيمة عند صاحب الموقع، وكما يقول صاحب كتاب نظام التفاهة الكندي ألان دونو «النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضاً عن العمل الجاد والملتزم».
لقد تم الانتقال من الحرفة craft التي تفيد الشغف والتخصص والإبداع، إلى الوظيفة job بوصفها مجرد وسيلة لتوفير قوت العامل وتأمين بقائه.
لم يعد لدينا مثقفين نقديين يشتبكون فكرياً مع القضايا والأسئلة المجتمعية الملحّة، هناك ما يسمى بالخبراء أو «أشباه الخبراء». هذا الخبير، كما يؤكد إدوارد سعيد، أنه من يدفع له لكي يفكر بطريقة معينة.
إن نظام التفاهة يعني انسحاب التفكير العميق والتأملي في النظر إلى الأشياء، وبالتالي إفساح المجال أمام تغول النزعة التقنية ذات الطابع التبسيطي والتنميطي. حيث يتخرج في الجامعات سنوياً ما يمكن تسميته بـ»الأمي ثانويا»، وهو شخص متمكن من المعارف التقنية والعملية، لكنه فارغ فكرياً وأيديولوجياً، عاجز عن التعاطي مع الإشكالات الفلسفية والنظرية المتصفة بالعمق وكثافة المعنى.
إن الشباب اليوم يتسمون بثقافة العنف المتفشي في ألفاظهم وأحاديثهم وكتاباتهم وحتى ممارساتهم السلوكية، وهم أيضا يبحثون عن الأعمال السهلة السريعة ذات المردود المالي السهل والمترافق مع نجومية فارغة عبر مواقع التواصل التي أعلت من شأن وقيمة التفاهة، حتى صرنا نشاهد أن الأكثر تفاهة هو الأكثر متابعة ومشاهدة.
يتسم الشباب في عصر التحول الرقمي بثقافة العنف الواضحة سواء في حديثهم أو نشاطاتهم أو ممارساتهم السلوكية، كما يتسمون بالبحث عن الأعمال السهلة سريعة المردود ذات الشهرة والنجومية مع مرونة فائقة في إمكانية التغيير للعمل والهوايات والأنشطة، وأيضا هناك تنامي لظاهرة الإنحدار الأخلاقي والقيمي والوازع الديني ، إضافة لإعلائهم من شأن التفاهة في شؤونهم الحياتية، كما يلاحظ تهاوي مفاهيم الولاء والانتماء وحتى الهوية.
لقد زادت وتطورت وتعقدت أساليب الإبتزاز الإلكتروني وخاصة للشباب بسبب الشغف المتواصل لديهم في إقحام أنفسهم إلكترونيا واستدراجهم عبر الإغراءات المالية أو الجنسية أو غيرها، ليصبحوا صيدا سهلا للإستغلال السيبراني.
هذا كله يتطلب مراجعة جادة ووقفة عميقة أمام ما يواجه الشباب الباحث عن فرصة حياة لائقة وبأية طرق ممكنة، بما يجعل منهم طاقات إيجابية تسعى للبناء لا للهدم.