وَهَنَ العظمُ منه، تجعّدت بشرتُه، لم تعدْ الصبغةُ تجدي نفعا مع شاربه الذي اشتعل بياضا ومع ذلك ظلَّ مصرّا عليه، اكتسحتْ صلعةٌ شديدةُ اللهجة مساحةً شاسعةً من رأسه، تهدّلَ كرشُهُ، انتفخت أوداجه، اعترى نظرَه ضعفٌ وبات سمعه ثقيلا، كما أنه أصبح يعاني في الآونة الأخيرة من أوجاع المفاصل التي تشتد عليه في أيام البرد القارس، وغالبا ما يشكو من صعوبة في تذكر الأسماء تضعه في حرج شديد، ولم يعد يتنبه إلى أنه يكرر الحكايات ذاتها، أمّا أكثر ما بات يزعجه فهو استيقاظه المبكر من دون أي مبرر، سوى تأكيد أمّنا الطبيعة له على دخوله الحتمي لمرحلة الشيخوخة.
ظل مصرّا على عدائه المطبق للكمبيوتر، ولم يستجب لمحاولات الأصدقاء بإقناعه الالتحاق بدورة محو الأمية الإلكترونية كي لا تركله مفردات العصر خارج ملعب الحياة. اتهمهم بالولدنة" وقلة الوفاء للزمن الجميل، وواظب على الاستماع إلى عبد الوهاب كلما أتيح له ذلك.
الرجل الذي صار الشباب ينادونه عمو، فيكتم غيظه مدعيا الحنان والتسامح. تحدّث لرفاقه بمرارة وحزن عن لقائه مصادفة بعد غياب سنين طوال، بالسيدة التي كانت ذات زمان بعيد، الحب الأول في حياته. وهي بطبيعة الحال ابنة الجيران الفاتنة، التي كان يرقص قلبه بين ضلوعه حين يلمحها بمريولها الأخضر، وضفائرها الطويلة وحيائها الذي اعتاد أن يشلع روحه من مطرحها، وأن يستشيط غضبا حين يتنافس شباب الحارة على لفت نظرها والفوز بقلبها، وغالبا ما انخرط في خناقة وتعرض للكمات لأن أحدا ما أطلق صفيرا لحظة مرورها.
قال بلهجة لا تخلو من الأسى والحنين: إنها كانت تشبه ميرفت أمين في أوج صباها وفتنتها ورقيها وأناقتها وخفرها، حين غنى لها عبد الحليم يا خلي القلب في فيلم أبي فوق الشجرة، فتحولت على الفور إلى حلم الشباب العربي ومصدر حنق وغيرة الصبايا، اكتشف صاحبنا وعلى نحو مباغت انه لم يجرِ أي تحديث على الصورة العتيقة المختزنة في ذاكرته، وأنه ما يزال يحتفظ بالصورة القديمة ذاتها لتلك الفتاة الجميلة، من دون أن يخطر بباله أنها قابلة للتقدم في العمر كذلك.
بنت الجيران الفاتنة التي لوّعته طويلا، والتي رسب في امتحان الرياضيات أكثر من مرة بسبب من عينيها السوداوين تحديدا، غدت عجوزا بالغة الترهل وقد غاب الخصر النحيل والقد الجميل، والشعر الحرير على الخدود، الذي اعتاد أن يهفهف قبل أن يطير وذلك على ذمة العندليب! مجرد امرأة ناقمة ضجرة تتذمر من قرار رفع الدعم عن جرة الغاز، وتطيل الحديث عن ضغطها المرتفع الذي يسبب لها متاعب صحية وتحرص على تخزين الباميا في موسمها، وتشكو من تمرّد بنات الجيل وصعوبة شكمهن.
وهي من قضت جُلّ صباها فوق سطح الدار تدّعي الانهماك في الدراسة وتتلقى نظرات الإعجاب ورسائل الحب والوله من الشاب الذي لم يكن أصلعا آنذاك.
ولولا أنها بادرت إلى تحيته وهو يهم في تسديد فاتورة الكهرباء لم يكن ليعرفها، لأن ملامحها تغيرت كليا، باستثناء تلك العينين اللتين احتفظتا ببعض الألق. صار قلبه يضرب بقوة، واستعاد في لحظة عمراً من البهاء مضى من دون رجعة، صافحها مودعا، وقد غمر الأسى قلبه. تمنى لو أن المصادفة العجيبة لم تحدث قط. أحس بالكهولة على الفور وكأن سنوات عديدة أضيفت إلى عمره بغتة.
لم يخطر بباله ماذا دار في رأس المرأة، وهي التي حاولت جاهدة ومن باب اللباقة إخفاء إحساسها بالخيبة، جرّاء الحال الذي وصل إليه فتاها الجميل بعد أن ظل مقيما في ذاكرتها شابا فتيا سنين طويلة، قبل أن يأتي ذلك العجوز البائس ليغتاله في لحظة واحدة!