بقلم الدكتور محمد فاروق المومني
كنا في غاية السعادة عندما انطلقنا برحلة مدرسية في الستينات متوجهين من شمال الاردن الى البحر الميت . ورغم أن الرحلة قد حصلت في فصل الصيف ، فقد كان ركوب الباص ممتعا لنا جميعا ، ومتميزا عن ركوب الدواب الذي سئمناه في القرية ، وأثناء عبورنا وادي اليابس دهشت بمنظر الجراد وانتشاره في الأجواء بكثافة حجبت عنا الشمس ، وكانت أعداد غفيرة منه تصطدم بالنوافذ وتترك آثارا مقززة .
في تلك الأثناء خطر ببالي قصص الآباء والأجداد التي كنا نسمعها في مجالسهم ، حول معاناتهم في مكافحة الجراد ورصف الطرق و إنشاء الجسور والعبارات ، أيام التشغيل الإجباري بلا مقابل ، أو مايسمى اختصارا بأعمال السخرة ، التي كانت تلجأ اليها الحكومات في العهد التركي لإجبار المواطنين على القيام بأعمال شاقة بلا أجر ، واستمر الحال إبان العصر الذهبي للإستعمار و بعده .
في تلك العصور المظلمة كانت المعيشة قاسية ، وكان الرجال يجبرون كل عام تقريبا ،على جمع الجراد بشوالات الخيش وحملها على ظهورهم والتخلص منها في الآبار الفارغة لأجل تفادي مخاطرها و شرورها ، كونها كانت تأتي على الأخضر واليابس ولا تترك للدابة او لصاحبها شيئا يؤكل .
ومع ان الجراد كان بمثابة نقمة عامة لدى الدول العربية قاطبة في عصور التخلف التقني وبدائية الإقتصاد وانعدام الموارد ، إلا انه كان عند البعض فرصة للشبع وربما رأوا فيه وجبة شهية ولذلك قيل فيه أحد الأمثال التي لايزال الناس يرددونها في اليمن وهو : ( سنة الجراد برخص اللحم) .
بعض الناس يظنون أن عصر السخرة هذا قد ولى الى الأبد وانمحى من الذكريات في كل الأمصار، أو لعله انقضى في الأردن بعد الإستقلال ورحيل المستعمر، وحل محله وضع جديد منذ صدور دستور عام 1952 الذي اصبح أمنية المعارضة وشعارها الدائم لأجل الإصلاح والتغيير ، بعد إلغاء التعديلات التي طرأت عليه باعتبارها رأس المشكلة ومنطلق الفساد حسب رأي البعض ومخالفة البعض الآخر ، وهي تتعلق بالدرجة الأولى بالبرلمان وتشكيل الحكومة والرقابة على اعمالها.
إلا أن الأمر ليس كذلك فلا تزال أعمال السخرة جائزة ومشروعة بحكم دستور الأحلام المزعومة ، رغم جورها ومخالفتها لكافة دساتير الأمم الراقية التي يتأسى البعض بتشريعاتها كدستور بلجيكا وإسبانيا وغيرها من الدساتيرالتي لا تعرف ولا تعترف بشرعية أعمال السخرة وإنما هي تعنى أكثر باتحادات العمال والنقابات وحق الناس بالعمل الكريم والعيش الكريم والأجر المعتبرفي أجواء حرية التعبير والمساواة والعدالة وحماية الحريات العامة بكافة صورها وأشكالها.
في بلادنا لم يكن الإهتمام منصبا على هذه المعايير والرؤى وانما انصب كل الإهتمام على كيفية الإستحواذ على السلطة والنفوذ ولو في أدنى درجاته لغاية في نفس يعقوب وربعه ، وظلت صلاحيات الحكومة في تكليف الناس بأعمال السخرة لا تخطر على بال أحد رغم وضوح النص عليها في المادة الثالثة عشرة من الدستور المراد الرجوع اليه بقولها: لا يفرض التشغيل الالزامي على أحد غير أنه يجوز بمقتضى القانون فرض شغل أو خدمة على أي شخص:- (1) في حالة اضطرارية كحالة الحرب ، أو عند وقوع خطر عام، أو حريق ، او طوفان ، أو مجاعة ، أو زلزال أو مرض وبائي شديد للانسان أو الحيوان ، أو آفات حيوانية أو حشرية أو نباتية أو أية آفة اخرى مثلها أو في أية ظروف اخرى قد تعرض سلامة جميع السكان أو بعضهم الى خطر (2) بنتيجة الحكم عليه من محكمة على ان يؤدي ذلك العمل او الخدمة تحت اشراف سلطة رسمية وان لا يؤجر الشخص المحكوم عليه الى اشخاص او شركات او جمعيات او اية هيئة عامة او يوضع تحت تصرفها.
وربما يرى البعض عذرا لتبرير تسخير الناس بلا مقابل في الحالات الاضطرارية التي تعجز فيها أجهزة الدولة عن مجابهة خطر عام وقت انعدام الموارد وتحقق العجز التام عن دفع أجور عالية ومكافآت مجزية للمسخرين في ركوب الأخطار دفاعا عن المصير وهي حالة نادرة لم تعد متصورة أو ممكنة في العصر الحديث الذي غدت فيه التكنولوجيا في متناول الجميع .
ولكن مسألة التغاضي عن الجراد الجديد الذي اجتاح البلاد صيفا و شتاءً بلا حسيب أو رقيب أدى إلى تمكين فئة قارضة من الانتهازيين والوصوليين والمنافقين الى اغتصاب حقوق الناس وأكل مخصصات الغلابا بطرق الفساد المختلفة وهو حال غير معقول أو مقبول ولايصح السكوت عنه كل الأزمنة .
إن النصوص التي تجيز السخرة كانت ولا تزال موجودة دون أدنى اعتراض عليها من أحد وزاد الطين بلة مسألة التغاضي عن الأفعال التي أدت إلى كل الفساد الذي أرهق البلاد والعباد وتبقى المسؤولية القصوى عالقة برقاب الغالبية القصوى من نواب الأمة الذين اعتاد بعضهم رفع صوته عاليا في المضافات والدواوين وحبس أنفاسه والاختباء تحت المقاعد اثناء انعقاد دورات المجلس .
وهو أمر مؤسف غاية الأسف و يندى له الجبين لأنه عبّد الطريق أمام كل الفاسدين ومكنهم بسهولة من ارتكاب جرائمهم المشينة بحق الجميع وأصبح النائب بسكوته المتعمد شريكا متواطئا ومعاونا للفاسد في بلاد تمنى أهلها سماع صوت نائبهم مجلجلا وهو يدافع عن الحقوق ويحاسب الفاسدين والمفسدين بدلا عن التواطؤ على ارتكاب كل القباحات التي حصلت بالماضي ليطلع علينا النائب بعد كل ما جرى نافضا يده من كل النوائب التي حصلت وكأنه كان متفرجا فضوليا على حلبة افتراس مقدرات الشعب .
ولعل ما يدعو للسخرية هو تبجح بعضهم على ناخبيه بأنه طالب أثناء نيابته المزعومة بفتح طريق أو إنشاء مستشفى أو مكتب بريد وغيره من الطلبات التي تعنى الحكومة بتنفيذها ضمن خططها المعتمدة دونما حاجة لطلب من أحد ، أو محاولة البعض الآخر غسل ماضيه الساكت والمتواطئ ورفع صوته هذه الأيام على الحكومة بعد فوات الأوان وعلو صوت الناخبين في الاحتجاج والتذمر الشديد على هدر و ضياع حقوقهم .
صحيح أن مفهوم ومعيار اختيار النائب قد انحدر الى الحضيض وأصبح مدعاة للسخرية والمسخرة ، منذ ان أصبح اختيار النائب مبنيا على سؤال يطرحه الناخب على النائب بقوله: كم تدفع ؟ وماهي الخدمات التي قدمتها لنا ؟ وماذا معك ؟ وغيره من المعاييرالفاسدة التي حالت بالفعل دون تقديم الأكفأ والأفضل لا بل دفعت بالناس الى تقديم النموذج الأسوأ والأضعف بينهم سيما وأن النائب في نظر الناخب لم يعد سوى مندوبا للعلاقات العامة وطريقا الى الواسطة وقيادة الجاهات و استجداء مشاهيرالساسة لأجل الحصول على وظيفة صغيرة او بعثة دراسية او ترقية في العمل لأحد المقربين منه .
إلا أن هذه المعاييرالمخزية لمهمة وطنية عالية الشأن وتتعلق بالتشريع والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية في مجتمع فاقت لديه المعرفة والثقافة كل الحدود ، تبدو غريبة وعجيبة لأنها أدت الى العزوف عن الإنتفاع بهذه القدرات الظاهرة لدى مختلف الطوائف والتجمعات والطبقات، ولجوء الجميع الى استبدالها بمعايير أهل البغي والجهالة ، التي جلبت لنا كل المفاسد وسهلت للفاسدين كافة انشطتهم الإجرامية بحق الشعب والوطن و قادت البلاد بالنتيجة الى حافة الهاوية.