تلتقي كل مشاعر النفس البشرية عند الوقوف أمام بيت الله الحرام، بين حبّ وخوف وخشوع وإيمان وتقوى وغيرها من المشاعر التي تستجمع ذاتها أمام المكان الأقدس على وجه الأرض، ويسابق الإنسان الزمن ليستثمر كل دقيقة يقف بها في هذا المكان، دعاء وابتهالا واستغفارا وتسبيحا وبكاء وتضرعا لرب العباد، جاعلا من زمنه يتوقف عند هذه اللحظات التي أكرمه الله بها ومنحه رزق الوقوف أمام الكعبة المشرّفة.
في رحاب مكة المكرّمة، لا يمكن أن توصف تلك اللحظات، فرؤية الكعبة تعيد أي منّا لاستعراض حياته بين الحسنات والسيئات، حتى يسعى لطلب المغفرة عن السيئات والدعاء بقبول الحسنات، حال لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، فما بالك إذا كان يقف في هذا المكان المقدّس لأول مرة في حياته وهو ما حدث معي عندما أديت مناسك العمرة، حيث سرنا في درب غالبيتنا لم نكن نعم أين سيقودنا لنجد أنفسنا أمام الكعبة المشرّفة، عظمة لا تشبه سوى ذاتها، عندها فقط يشعر الإنسان أنه عاجز عن الكلام وعن كل المهارات الحياتية في إدارة أي حال من أحوالها، باحثا عن الأدعية التي يمكن أن تقال ومن هم الأشخاص الذين سيقوم بالدعاء، سيما إذا كانوا كثر وقد حمّلوه أمانة الدعاء لهم، وتتداخل تفاصيل كثيرة في داخل الإنسان متمنيا لو أن باقي عمره يقضيه في هذه البقعة النظيفة المعطّرة بمسك التوبة والاستغفار بكل ما تعنيه الكلمات من معاني.
قبل أيام منحني الله رزقا هو الأضخم في حياتي، حيث كنت في أول أفواج بعثة جلالة الملكة رانيا العبدالله لأداء العمرة، كانت مفاجأة منحتني سعادة لا يمكن وصفها، رافقت سيدات نشأت حيث ضم الفوج قرابة (200) سيدة من أسر الشهداء والمتقاعدات العسكريات والناشطات في خدمة المجتمع والمستفيدات من الجمعيات الخيرية والتعاونية ومؤسسات المجتمع المدني وعدد من المتطوعين الشباب، وهو الفوج الأول من أصل أربعة من محافظات العاصمة واربد والبلقاء والمفرق والطفيلة ومعان والعقبة، يضمون (550) سيدة وناشط، في حديثي عن أيام قضيتها في مكة المكرّمة وهي زيارتي الأولى لها ربما احتاج كتبا ففي كل التفاصيل كنت أشعر بالاختلال الايجابي بحياتي التي لم تعدّ كاملة بذات المكان الذي كان قبل أن أؤدي العمرة، مكان يخلو من أي سلبيات بلون واحد أبيض له بريق يجعل عيني لا ترى سوى الخير، تغيب الشرور وتتسيّد الرحمة والحسنى عالمي وحياتي.
ومن أكثر ما لفت انتباهي وأنا في مكة المكرمة أعداد المعتمرين فلم يقل عددهم يوميا عن المليونين، وفي متابعة للمشهد تلحظ التنظيم وقلة الأخطاء بشكل يكاد لا يذكر، مشهد متكامل من التنظيم والترتيات والإجراءات النموذجية، وكأن هذه البقعة التي تجمع العالم بأسره فلا تغيب جنسية عنها، تسير بكل هدوء وتنظيم وغياب للأخطاء، وبمعاملة رائعة من سكان المدينة وكذلك من رجال الأمن، مسجلين للمملكة العربية السعودية نجاحات لا تعدّ ولا تحصى، بالفعل فقد نجح السعوديون بقيادتهم في جعل ديارهم التي تفوح منها رائحة عطر التوبة والرحمة، أن تكون ديارا بحجم قارّات، في أداء مميز وانجازات ضخمة حيث لا يخلو الحرم من مشاريع التوسعة المستمرة حتى يؤدي المعتمر وكذلك الحاج في موسم الحج المناسك بكل سهولة ودون أي عناء أو ازدحامات، ودون أدنى شكّ أقل من يوصف به هذا الجانب أن السعودية تفوّقت وتتفوّق كل دقيقة في جعل مكّة عالم مختلف لكل مسلمي بقاع الأرض.
في رحاب مكة المكرمة هذا الحال الرائع والمميز الذي قدّمته لي جلالة الملكة رانيا العبدالله جاعلة من الحلم حقيقة ومن الأمل واقع معاش، جزاها الله خيرا وسعادة بحجم ما منتحته لي ولأكثر من (500) سيدة، ففي هذا المكان تولد نفوس جديدة وقلوب بيضاء.