حسين الرواشدة - كانت الصالونات السياسية فيما مضى غرفا مغلقة لتداول المناكفات، وإدارة الصراعات بين طبقة السياسيين، ما يتسرب منها فقط يحظى بالنقاش العام، ثم يتبخر بإشهار تهمة الإشاعات عليه. الآن تغيرت الصورة تماما، الصراعات أصبحت على المكشوف، وأصحاب الدولة والمعالي يقتنصون الفرصة، أي فرصة، لإطلاق النار على خصومهم، اما البنادق الصوتية المستخدمة على الدوام فهي “المصلحة الوطنية”. لا أحد يتذكر، وهو يستعرض أمام الجمهور، انتقاد تجربته، أو الاعتراف بأنه جزء من المشكلة، ومن الوضع القائم أيضا.
ما نسمعه قد يندرج في باب النصائح أو الفضايح، لا فرق، وقد يفهم في سياق الدفاع عن الدولة ونظامها السياسي، أو انتقاد الحكومات والإدارات، لا فرق أيضا، وقد يطرح لدى جمهور المستمعين سؤالا محيرا: من يتهم من؟ لا فرق ثالثا، المفارقة الأهم هي: على من يتصارع هؤلاء؟ لأجل الأردنيين، حيث مكاشفتهم والدفاع عن مصالحهم، أم لتبرئة الذمة، والتنصل من المسؤولية، وتصفية الخصوم السياسيين للانفراد بالمشهد، وضمان حجز مقعد قد يكون شاغرا في أي لحظة؟
إذا كانت الإجابة هي “من اجلكم”، أقصد الأردنيين فمن حقنا كمواطنين أن نصارحهم بكلمة واحدة “جربناكم”، أما إذا كانت الثانية فمن حقنا أيضا كمستمعين أن نقول لهم “أعيرونا صمتكم”، كلا الردين وجهان لعملة سياسية واحدة، هدفها كشف الرسالة، وتفنيد مضمونها، وإقناع من يرسلها انه مكشوف تماما.
الجمهور يعرف بوضوح أن هذه الخصومات المنزوعة، أحيانا، من أخلاقيات الخصومة لا علاقة ولا مصلحة له بها، وإنها أشبه ما تكون بمباريات ودية، لا قيمة فيها للأهداف، ولا معنى لتصفيق الجمهور، ولا تؤهل الفرقاء لأي تصنيف على جدول الإنجازات.
استدعاء الدولة، هنا، من قبل السياسيين في مناكفاتهم هو اللافت والأخطر، الاستدعاء لا ينم عن نقد سياسي رصين يصب بمصلحة الدولة، ولا عن قواعد وتقاليد سياسية، يفترض أن يلتزم بها السياسيون حين يستشعرون أي خطر، او تهديد لبلدهم، أبرز هذه القواعد التوافق على موقف موحد، أو وصفة للخروج من المأزق، أقصد تجاوز التشخيص واللوم وتحميل الطرف الآخر، أيا كان، مسؤولية ما حدث، إلى سؤال العمل فقط، هذا للأسف لم يحدث، على الرغم من أن هؤلاء “المنتقدين الجدد ” شاركوا بصناعة الأزمة، وواجبهم أن يطرحوا حلولا لها، أو أن يصمتوا.
لا يخطر ببالي إقصاء أي طرف، أو منعه من التعبير عن رأيه، لكن يبدو أن هذا الصراع يستنزف الدولة والمجتمع معا، ويوتر المناخات العامة بمزيد من القلق، وبدل أن يكون لنا، كأردنيين، دولة وتجربة نتوافق على قيمها، وندافع عنها، نتحول إلى أطراف متصارعة على الدولة، وهذه معادلة خطيرة، خاصة إذا اخترقتها دعوات المظلومية والمحاصصة، والديموغرافية وغيرها من الألغام المستورة والمكشوفة.
الدعوة لإنتاج طبقة سياسية جديدة، تبدو وجيهة وضرورية، لكن الأهم من ظهور هذه الطبقة طبيعة “التربة “التي ستخرج منها، وفيما إذا كانت ولادة أو صناعة، والأدوات التي تتدخل بتحديد مواصفاتها وادوارها.
من المؤكد أننا سنكرر التجربة ذاتها بأخطائها، إذا لم نتعلم مما حدث، والمؤكد، أيضا، أن الدولة، أي الدولة، بحاجة دائما لـ” عصبة”سياسية، سمها وسائط أو شخصيات او رجال دولة، تشكل سردياتها، وتعكس قيمها، وتدافع عن رسالتها، وتعبر عن ضميرها العام.
لا يوجد لدينا، للأسف، مثل هذه “العصبة” المتماسكة، سواء بسبب سلوك بعض إدارات الدولة، التي أخطأت أحيانا بتكسير الوسائط السياسية والاجتماعية أو إحلال آخرين، بدلا منهم، لا يستحقون مواقعهم، أو بسبب عجز النخب داخل المجتمع، سواء اكانت حزبية أو نقابية او مستقلة، عن إعادة إنتاج نفسها بخطاب سياسي يمثل الدولة، ويقنع الأردنيين، المطلوب، الآن، بدل أن يتصارع السياسيون علينا أن نفكر جديا، نحن وهم، بمعادلة جديدة عنوانها “دولة تستحق أن ندافع عنها، ونختلف لأجلها”.