بعد سنوات من الجهود المتواضعة لإصلاح قطاع التعليم، يجب الآن على الأردن ضمان إعادة تشكيل شاملة لمؤسساته من أجل السماح بتنفيذ فعال لبرنامجه الإصلاحي . كما أنه من الضروري تعزيز هذه المؤسسات لكي توفر الحماية للمواطنين وتعيد بناء ثقتهم في النظام التعليمي الوطني .
عرف قطاع التعليم في الأردن ارتفاعاً ملحوظا وكبيرا في أعداد المتعلمين ، لكنه بقي متواضعاً من حيث الجودة. ومع مرور العقود التالية ظلت هذه الوضعية مؤبدة بفعل عوامل كثيرة يصعب حصرها، بل تحولت هذه الحال إلى مشكلة بنيوية استعصى حلها على كل الحكومات التي تعاقبت على تدبير قطاع التعليم في الأردن . وفي أيامنا هذه ، يقر الجميع في الإردن ، بدءاً من أعلى قمة هرم السلطة إلى المواطن البسيط أن المدرسة الأردنية عليلة ، بل ثمة إيمان كبير أن علاجها أضحى مهمة مستحيلة بسبب المحاولات المتواضعة لكل الإصلاحات التي طبّقت خلال العقود الماضية .
وعلى صعيد آخر، ورغم الصورة المتواضعة التي ترسمها التقارير عن وضعية المدرسة والجامعة في الأردن ؛ فإن بعض النجاحات قد تم تحقيقها بالفعل . لكن مجيئها المتأخر جعل من قيمتها وكأنها منعدمة. ومن بين النجاحات المتأخرة التي حققتها المدرسة و الجامعة في الأردن ، الوصول إلى نسبة تسجيل مرتفعة جدا في المستوى التعليمي بشكل عام .
إن هذا النجاح الصغير في تعميم التعليم المدرسي والجامعي في الأردن ، لا يمكنه أن يغطي الصورة القاتمة التي رسمتها التقييمات والأستبيانات الوطنية التي مهدت لمشروع الإصلاح الجديد؛ "من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء: رؤية استراتيجية للإصلاح . إن الأسرة والمجتمع الأردنيين فقدا الثقة في المدرسة والجامعة وفي قدرتهما على أداء وظيفتها ورفع التحديات الحالية والمستقبلية للأردن . وتعتبر أزمة الثقة في المدرسة والجامعة ودورهما، ونجاعتهما ، وجودتهما من بين الملاحظات القوية التي أقر بها المشروع الجديد للإصلاح . إن مجرد الإقرار بذلك ينقل المشكلة إلى البنية المؤسساتية للبلد، إذ أليست الثقة منتجاً خالصاً لا تضمنه إلا مؤسسات متينة وحرة وديمقراطية ؟
وبعد دراسة أوجه خلل المدرسة في الأردن وحصرها، قام هذا التقرير بتصنيفها إلى صنفين: خلل مرتبط بمحدودية المردودية الداخلية للمدرسة الأردنية، وخلل مرتبط بضعف المردودية الخارجية لهذه المدرسة.فيما يتعلق بمحدودية المردودية الداخلية؛ فإن المدرسة الأردنية تعاني من ضعف التمكن من اللغات والمعارف والكفايات والقيم ، ومن استمرار ظاهرة الهدر المدرسي والمهني والجامعي ، ومن ضعف المردودية الكمية والكيفية للبحث العلمي . أما فيما يخص ضعف المردودية الخارجية فيتجلى أساساً حسب هذا التقرير في الصعوبات التي يصادفها خريجو المدرسة الأردنية في الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقيمي ، وفي انكفاء المدرسة الأردنية على ذاتها، وعدم قدرتها على الانفتاح على محيطها وعلى عالم الابتكارات والتكنولوجيا وإضافات المعرفة .
وعلى المستوى الجامعي، لم تفلت الجامعات الأردنية من مظاهر غياب السلوك المدني وتفشي ظواهر العنف داخل الجامعات والأحياء الجامعية المخصصة لإيواء الطلبة . لقد حوّلت هذه الظروف الجامعات الأردنية إلى ساحة للصراعات السياسية والعشائرية ، وسحبت منها صورة المؤسسة البحثية والعلمية المنتجة للمعرفة والباحثين. وفي السنوات الأخيرة كان عدد من الطلبة ضحايا لهذا العنف، إذ توفي عدد منهم بسبب أحداث العنف التي كانت تندلع بين الطلبة في رحاب الجامعات الأردنية .
وإذا أقرّت هذه التقارير بفقدان الأسرة الأردنية للثقة في المدرسة والجامعة ؛ فلهذه الحال ما يفسرها على مستوى طبيعة المؤسسات السياسية والاقتصادية للبلد وجودتها ومتانتها. وقبل أن نستعرض طبيعة المؤسسات الأردنية اليوم، لا بد من تقديم رؤية النظرية الاقتصادية لعلاقة المؤسسات بجودة الرأسمال البشري .
تقدم النظرية الاقتصادية المعاصرة بعض الأفكار الجديدة والمهمة عن العلاقة بين طبيعة مؤسسات بلد ما وجودة تعليمه. فإذا كان التعليم عاملاً من عوامل خلق النمو الاقتصادي، فهو بدوره يبقى مرتبطاً بتحقق شروط أساسية، وخاصة شرط متانة المؤسسات السياسية والاقتصادية. إن المؤسسات/القواعد في المجتمع هي مصدر الثقة بالنسبة للأفراد، وهي أيضاً مصدر المحفزات التي تدفع الأفراد نحو الاستثمار في رأسمالهم البشري. ومتى ما انعدمت تلك المحفزات تراجع الأفراد عن الاستثمار في تعليم أنفسهم وأبنائهم، وتراجعت ثقتهم في المؤسسات السياسية والاقتصادية التي يعيشون في ظل حكمها، وتدهورت معارفهم وجودة تعليمهم.
وفي وضعية هذه البلدان يتخلى الأفراد عن الاستثمار في تعلميهم وتعليم أبنائهم نتيجة فقدان الثقة في العيش في ذلك البلد، وعلى أقصى تقدير فهم يتحولون إلى مشاريع "مهاجرين سريين مقيمين" في انتظار فرصة سانحة للهجرة.
إن المؤسسات الديمقراطية والحرة تساهم في تراكم الرأسمال البشري ومخرجات المعرفة، وانتقال التكنولوجيا الحديثة إلى الاقتصادات النامية وتأهيل إنتاجية العمال. ويؤدي هذا بدوره إلى تشجيع استثمار الأفراد في التعليم والتحفيز على الاستثمار وتأهيل جودة التعليم .
الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة
أستاذ اللسانيات العربية الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي / الأردن