لا ندري أين تقف الحسابات الاستراتيجية الروسية جراء استمرار النزاع في أوكرانيا، لكن الواضح لأي ملم بمبادئ العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية أن خسارات روسيا جراء قرارها الخاطئ في اجتياح أوكرانيا تتزايد، وكلما زاد أمد النزاع زادت الخسارات المتحققة التي تجاوزت بكثير المعاناة الاقتصادية الروسية، من توقعات بانكماش الاقتصاد الروسي بمعدل 15 %، وهذا رقم كبير وضار، يؤذي روسيا وموقفها الاستراتيجي الدولي وليس فقط يفاقم معاناتها داخليا.
خسائر روسيا للآن هائلة، نذكر منها: أولا، خسائر عسكرية كبيرة وفي أحيان مهينة بعد أن أصبحت أوكرانيا ميدانا لتجربة الأسلحة الغربية والأميركية المتطورة مقارنة بتلك الروسية التقليدية التي لم يحدث عليها الكثير من التطور التكنولوجي. ما تزال روسيا قادرة على هزيمة أوكرانيا، لكن لذلك ثمنا كبيرا أبرز تجلياته إظهار الفجوة العسكرية المتسعة بين القوة العسكرية الروسية وتلك الأميركية.
ثانيا، تفوق معلوماتي واستخباراتي غربي أدى لاستهداف أسطول روسيا في البحر الأسود واستهداف الجنرالات الروس في أوكرانيا. هذا أيضا محرج لروسيا ويظهر فجوة كبيرة بالقدرات التكنولوجية الاستخباراتية المتفوقة للغرب.
ثالثا، إخفاق روسيا باستمالة الصين لصالحها فلم تدعمها لا عسكريا ولا تقنيا، ولا حتى اقتصاديا، والصين بدت دولة حكيمة قامت بحساباتها بدقة، وأدركت أن دخولها أسواق أوروبا وأميركا أهم بكثير من نصرة روسيا، وأنها بالحياد مما يحدث تكون طرفا كاسبا من روسيا والغرب في آن معا.
رابعا، عزل روسيا عن نظام سويفت الدولي، ما يعد ضربة اقتصادية قوية تحد من قدرة روسيا على التجارة الدولية. خامسا، حظر البترول الروسي عن أوروبا هو ضربة لروسيا أكبر مما هو موجع لأوروبا، فهذا سيجعل أسعاره أرخص عالميا ويقلل من عوائد المال المترتبة. صحيح أن هذا مؤذ أيضا لأوروبا وأميركا وسيرفع الأسعار ويحدث اضطرابا بالاقتصاد، لكن وقعه سيكون أشد فتكا على الاقتصاد والمالية الروسية.
هذه بعض من الخسائر المترتبة حاليا، ولكن الأكبر منها كلها وأخطرها، أن روسيا، وبسبب اجتياحها لأوكرانيا، لم توقف بل مهدت الطريق، وزادت من وتيرة رغبة دول أخرى بالانضمام لحلف الناتو. السويد وفنلندا تسعيان بشكل حثيث الآن للانضمام للناتو في أعقاب الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وهو الأمر الذي أحجمت عنه لعقود من الزمان. هذه خسارة استراتيجية هائلة لروسيا جعلت نتيجة الحرب تماما عكس ما سعت له روسيا.
على روسيا أن تبتلع كبرياءها وتعترف بخطئها وفي هذا كثير من الحكمة، فالخسائر التي تتكبدها جراء هذه الحرب أكبر بكثير مما يجب احتماله. وبالمقابل، فعلى العالم الغربي أن يجد لروسيا مخرجا يحفظ ماء الوجه بعد الدرس القاسي الذي تعلمته. في هذا حكمة أيضا فلا نريد أن تحشر روسيا في زاوية لا مخرج منها لأن لذلك خطورة سياسية وأمنية كبيرة.
مفاوضات خلفية بعيدة عن الأضواء مع روسيا قد تشكل ضرورة في المرحلة المقبلة وعلى قاعدة البراغماتية السياسية التي تعيد الأمور لنصابها الصحيح، تعترف روسيا من خلالها بخطئها وتعيد الأمور لما كانت عليه، وبالمقابل يزال عنها نظام العقوبات الصارم. هذا ما يجب أن نسعى إليه جميعا لأن الجميع متضرر جراء استمرار الحرب في أوكرانيا.