حسين الرواشدة - عملية اغتيال الإعلامية، شيرين أبو عاقلة، من قبل الاحتلال الصهيوني، لم تكن صدفة، فرصاصات القناص التي سددها لرأسها، دون غيرها من فريق الطاقم الإعلامي، كانت ترجمة لقرار سياسي مدروس ومحسوب بدقة، يمكن أن يفهم في سياقين اثنين.
الأول انزياح الاحتلال، سلطة ومجتمعا، نحو التصعيد والتطرف، وبالتالي طي صفحة المناورات السياسية مع كل الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية، وفرض الأمر الواقع القائم بعد “صفقة القرن” على الفلسطينيين، والعرب والمجتمع الدولي.
أما السياق الثاني فهو المأزق الوجودي الذي يدفع الاحتلال لاستخدام ما لديه من فائض قوة، وحلول أمنية، وخبث سياسي، لإقناع الجميع بأنه سيفعل ما يريد، ولن يقيم وزنا لأحد.
لماذا، إذا، اختار “شيرين” لتحمل هذه الرسائل المزدحمة بصور الاستهانة والكيد والعنف غير المبرر، وفي هذا التوقيت بالذات أيضا؟ الإجابة، في تقديري، هي أن الأطراف المقصودة، من قبل الاحتلال، باستلام هذه الرسائل لها علاقة، بشكل أو بآخر، بالإعلامية “أبو عاقلة”، أو العكس أيضا.
فهي تعمل بقناة الجزيرة التي تمثل أحد أبرز المنابر الإعلامية، الإعلام الذي تمثله المغدورة مستهدف باعتباره الشاهد على جرائم المحتل، وإسكاته أصبح مطلوبا، وهي، أيضا، تحمل جواز سفر أميركيا، وهذا لم يمنع تل أبيب من اغتيالها، بما يعني أن أي ضغوطات تمارسها واشنطن عليها لا قيمة لها في حساباتها السياسية.
“شيرين”، ثالثا، من مواليد رام الله ذات الوجود المسيحي، وتسكن في القدس، وإسرائيل معنية باقتلاع المسيحيين وتهجيرهم، كما أنها معنية بالرد على انتفاضة المقدسيين بالأقصى وكسر صمودهم، واغتيالها، هنا، بما يحمله من رمزيات للمكانين معا، يبعث برسالة للفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، أنهم في كفة واحدة، كمصدر تهديد لها، وأن مقدساتهم تحت سلطتها، وأنه لا فرق بينهم في موازين الاحتلال، ما دام أنهم يصرون على خيار المقاومة، والتمسك بأرضهم وحقوقهم.
درست “أبو عاقلة” بجامعة اليرموك، وتحمل جواز سفر أردنيا، أسوة بغيرها من المقدسيين الذين يحظون بالدعم من الأردن لتمكينهم من الصمود، كما تحظى باحترام لدى أغلبية الأردنيين تقديرا لمهنيتها الصحفية، ومواقفها تجاه القضية الفلسطينية.
تل أبيب هنا معنية بإيصال رسالة جديدة للأردنيين، بعد تصريحات “بينيت” الأخيرة حول الدور الأردني في الأقصى والقدس، وأعتقد أنها وصلت، وأن الردود الرسمية والشعبية عليها تعكس المعادلة الجديدة للعلاقة بين الطرفين، التي أتوقع أنها تخضع، الآن، لعمليات إعادة التقييم والمراجعة والترسيم.
صحيح خسرت تل أبيب جزءا مهما من صورتها في الإعلام، بسبب بشاعة الجريمة التي ارتكبتها، كما تمكن الإعلام الحر من إبراز رواية الاغتيال بالشكل الصحيح والمؤثر، لكن رهانات الاحتلال على ضعف الذاكرة العربية والدولية، وغياب الفعل الحقيقي، وتراجع العواصم العربية عن دعم الحق الفلسطيني، ثم انشغال العالم بالحرب الروسية الأوكرانية، كل ذلك يمنحه القدرة على تغطية جرائمه، والاستمرار بها، ثم توظيف ما دار من نقاشات مفتعلة حول “التحقيق” في عملية الاغتيال، أو حول هوية “الشهادة”(!) للأسف، من أجل التشويش على الجريمة التي ارتكبها، وعلى رسائلها الملغومة أيضا.
الكتلة الفلسطينية، خاصة المقاومة داخل الضفة الغربية وخارجها، هي المستهدف الأول من جريمة اغتيال “أبو عاقلة”، فبعد اجتياح مخيم جنين، سيبدأ الاحتلال سلسلة من الاغتيالات لقيادات فلسطينية، وسلسلة من الاجتياحات للمناطق التي يعتقد أنها تضم نشطاء فلسطينيين، وعليه فإن توقيت الاغتيال يفهم في سياق إطلاق حملة التصعيد العسكري والأمني، وقطع خطوط مبادرات التهدئة التي تحاول بعض الأطراف إقناع تل أبيب بها.
يبقى الموقف الأردني، السياسي تحديدا، مصدر إزعاج متواصل للاحتلال الإسرائيلي، فما صرح به الملك خلال زيارته لأميركا وفي لقاءاته مع عدد كبير من الشخصيات العسكرية والبرلمانية والسياسية، ثم لقاؤه الثاني مع الرئيس “بايدن”، حول انتهاكات تل أبيب لتفاهمات التهدئة، على الرغم مما بذل من جهود، يضع مراكز القرار الأميركية أمام وجه تل أبيب المكشوف.
وإذا صحت التسريبات لمسألة الطرح الأردني لإطار “الضمانة الأميركية” للمعاهدة الأردنية مع إسرائيل لأجل التدخل، فإننا بانتظار مرحلة جديدة تعكس اتساع الفجوة بين الطرفين، وهذا ما يقلق تل أبيب، وقد يدفعها لإعادة حساباتها تجاه الأردن، خاصة بما يتعلق بموضوع القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية.