د. أسامة عكنان - الانهيار غير واضح المعالم في الأردن قادم لا محالة إذا استمر هؤلاء القائمون على الأمر فيه في إدارة الدولة وفق النهج التدميري الذي اعتادوا عليه.
في هذا المقال سنعرض قراءة تفكيكية لقانون الأحزاب الأخير الذي وافق عليه البرلمان بدون أي تعديل، وإننا إذ نقوم بهذه القراءة التفكيكية لهذا القانون، فللدلالة على هذا الانهيار القادم من هذا الباب تحديدا بسبب كونه أحد أهم الأبواب الذي تمارس فيه السلطات المتحكمة في الأردن أكبر عملية تضليل للإيحاء بديمقراطية الدولة خلافا للواقع وللحقيقة.
مشروع قانون الأحزاب الذي اقترحته لجنة سمير الرفاعي، والذي تقدمت به الحكومة لمجلس النواب فاٌقره ووافق عليه بسرعة البرق، هو في الواقع قانون – بعد أن أصبح قانونا – يرسل للأردنيين وبصريح العبارة من خلال مواده الرسائل التالية:
الأولى: لا أريدكم أن تؤسسوا أحزابا سياسية تُعَبِّر عن أفكاركم ومشاريعكم السياسية المُجَسِّدَة لمصالحكم الحقيقية، وسوف أحارب ذلك بكل الطرق، وأولها قانون الأحزاب هذا ذاته.
الثانية "وهي الرسالة الأهم": أيها الأردنيون لن تؤسسوا سوى حزمتين من الأحزاب فقط، تكونان قادرتين على تشكيل الحكومات الحزبية، وهو ما يتيحه ويوطِّره هذا القانون: حزمة تمثل الأردنيين الذين صنَّفهم قرار فك الارتباط على أنهم "الأردنيون"، وحزمة أخرى تمثل الأردنيين الذين صنَّفهم القرار على أنهم "الفلسطينيون"، أو بالتعبير المهذب "الأردنيون من أصل فلسطيني" أو "المكوِّن الفلسطيني".
وإن أمكن وجود حملة مشاريع وبرامج حقيقية قادرة على التعاطي بإيجابية مع معضلات الأردن بعيدا عن المناكفات الهوياتية التي ستغدو هي ديدن تلك الحزم من الأحزاب التي يدفع القانون باتجاه تسهيل تأسيسها، فإن حملة المشاريع هؤلاء، ولأنهم سيمكثون بالضرورة المُحَتَّمَة بسبب طبيعتهم الفكرية بوصفهم حملة مشاريع، خارج نطاق هاتين الحزمتين من الأحزاب البائسة، سوف يجدون أنفسهم بحاجة إلى معجزاتٍ تحدُث في الأردن ليتمكنوا من تجسيد مشاريعهم وأفكارهم الجادة على شكل أحزاب سياسية تصل إلى قبة البرلمان، بسبب صعوبة ذلك بموجب هذا القانون نفسه. ومن ثم فكأننا بإزاء قانون أُطلِقَ عليه وصف أنه "قانون أحزاب"، في حين أنه "قانون لا أحزاب"، لتمرير خدعة الديمقراطية في بلد أبعد ما يكون عنها.
الثالثة: قرار فك الارتباط سيبقى أداة تفكيكٍ وتمزيقٍ للنسيج المجتمعي الأردني، والإقليمية والعنصرية ستبقيان مظهرا من مظاهر العمل السياسي في الأردن، ولكنهما ستُقَنَّنان كي تُرضِيا الأمريكيين الذين يريدون شكلا سياسيا وقانونيا مُقنعا لجهة شكلانيته الديمقراطية، يكون قادرا على أن يستحلبَ عدم معارضة الناخب الأمريكي لوجودهم العسكري الكثيف في الأردن، وذلك لأجل ترحيل الأزمات التي خلقَها قرار فك الارتباط، إلى أجل غير مسمى، ولفتح الأردن ليكون جسرا اقتصاديا وثقافيا تعبره إسرائيل إلى الفضاء العربي، مع بعض الفُتات الذي سيُلقى للأردنيين كي يشعروا بأن أمرا ما مفيدا وإن يكن ضئيلا قد تحقق.
إذا كانت دولة مثل مصر التي يتجاوز تعداد سكانها المائة مليون نسمة، والتي يحكمها العسكر الذين تتعارض طبيعتهم تعارضا كليا مع فكرة التحزب السياسي أصلا ومن حيث المبدأ، ما يجعل من المفهوم لو أنهم وضعوا كل العراقيل المُتَخَيَّلَة في طريق إنشاء الأحزاب السياسية، مع العلم بأن الدولة المصرية ليست فيها مشكلة هوية أصلا كما هو الحال في الأردن، بسبب وحدة وتجانس القوام الهوياتي للشعب المصري، ناهيك عن أن تكون لدى ذلك الشعب مشكلة هوية عميقة تمزِّق البناء المجتمعي، كما هو حالنا في هذا البلد منذ صدور قرار فك الارتباط وحتى يومنا هذا..
نقول: إذا كانت مصر التي هي كذلك لم تجعل العسكريين يغالون في عرقلة العمل الحزبي، فلم يشترطوا أكثر من 3000 عضو لتأسيس الحزب، فهل يعتبر من صاغوا قانون الأحزاب الأردني الأخير جادين في ادعائهم تشجيع العملية السياسية على أساس التَّحَزُّب، وهم يشترطون في دولة لا يتجاوز عدد سكانها ما نسبته الـ 8% من تعداد الشعب المصري، والتي تنخرها إلى أعمق أعماقها أزمة هوية شاملة تمتد من الهوية العامة إلى عديد الهويات الفرعية المتناحرة، والتي يُفترَض أنها دولة لا يحكمها العسكر.. وهم يشترطون ألف عضو لتأسيس الحزب؟!
ألا يقتضي المنطق ألا يزيد عدد أعضاء الحزب المؤسسين في دولة مثل الأردن إذا ما قيس الأمر بالنموذج المصري الذي أوضحنا مُكَوِّناتِه وطبيعته، عن "250" عضوا على أقصى تقدير، ومن الناحية الرقمية الصرف بعيدا عن الاعتبارات الأخرى التي يفترض أن تنقص العدد إلى ما هو أقل من ذلك؟!
ترى، هل كان الأردنيون مطلع عقد التسعينيات عندما أتاحوا الفرصة لكل خمسين عضوا أن يشكلوا حزبا سياسيا، مجموعة من الأغبياء والسفهاء والحمقى مثلا، وهم يقومون بمراجعة أنفسهم الآن؟!
وهل هم لم يتحرروا من غبائهم وحماقتهم عندما تجرأوا ورفعوا العدد إلى 150 عضوا في النسخة المعدَّلَة من القانون، والتي تلت قانون مطلع تسعينيات القرن الماضي، ثم إلى 500 من النسخة التي سبقت النسخة الحالية، وهي نسخة منتصف العقد الأول من القرن الحالي، ليكتشفوا فجأة أنهم مجموعة من الحمقى اليوم فيقررون رفع العدد إلى "1000" عضو؟!
إن معظم وأهم الدول الديمقراطية في العالم لم تشترط هذه الاشتراطات التي زخر بها مشروع قانون الأحزاب المقدم إلى برلمان، هو أصلا مؤسسة لا علاقة لها بتمثيل الشعب، ولا تُعَبِّر عن إرادته، ولم يتم انتخابها بقانون تمثيلي محترم، فضلا عن أن مشروعيتها تكاد تهوي إلى الصفر بعدم تجاوز نسبة المشاركين في الانتخابات التي أوجدته، الـ 29% ممن يحق لهم التصويت، هذا إذا سلمنا بصحة المؤشرات الرقمية التي قدمتها الحكومة عن هذه الانتخابات، ما يعني أن الشعب نفسه لا يعترف بالعملية الانتخابية برمتها، فكيف تَفرِضُ عليه مُخرجاتها قانونا بائسا مثل قانون الأحزاب الذي يتم تسويقه بأنه دُرَّة تاج الإصلاح السياسي؟!
إن المُخرَج الوحيد لهذا القانون الذي سوف يجد الأردنيون الذين يريدون الاشتغال بالسياسة أنفسهم إزاءه مضطرين إلى استكمال الأعداد المطلوبة للوصول إلى سقف الـ "1000" عضو المشترطة، بقوائم أبناء العائلة والعشيرة والقبيلة والحمولة.. إلخ، بعيدا عن الفكرة الحقيقية الجامعة والمُعَبِّرَة عن المصلحة في أنساقها السياسية، هو مُخرج بائس سوف يُقونِن العصبية السياسية ويُمَأسِسُها، بعد أن كانت هذه العصبية ترتكز إلى مأسَسَة الفساد فقط، وسوف تغدو السياسة في الأردن قائمة على مبدأ المحاصصة العشائرية والهوياتية!!
وهل هناك فرق جوهري بين نظام المحاصصة العشائرية والهوياتية والمكوناتية التي يقوم عليها ولأجلها هذا القانون، وبين نظام المحاصصة الطائفية التي أهلكت الحرث والنسل في كل من العراق ولينان؟! هل ستبقى العملية السياسية جدية وجادة ومُنتِجة لمصلحة الدولة والشعب عندما تقوم على ركائز المحاصصة، أيا كان نوع تلك المحاصصة التي تقوم عليها وترتكز إليها: هوياتية، أو طائفية، أو مذهبية، أو دينية.. إلخ؟!
بطبيعة الحال سوف يتصدر الكثيرون للقول بأن القانون لا يصرِّح بهذه الادعاءات المحاصصاتية، وهذا صحيح، بل هذا هو مبعث القلق من هذا القانون أصلا، لأنه قائم على الخداع من جهة أولى، وهو قائم من جهة ثانية على استغلال واقع التجريف الفكري والثقافي والسياسي الذي تعرض له الأردنيون على مدى عقود طويلة، انطلاقا من وعي من وضعوه وصاغوه بهذا الواقع الأردني الذي تم تجريفه، فتمت صياغته لتبدو مشكلته رقمية وعددية فقط، وهي المشكة التي قد يجد البعض في جُعَبِهم تكييفات تبررها، في حين أن مشكلة هذا القانون تكمن على أنه ينطوي على كل مقومات إنتاج الحياة السياسية في الأردن على أسس هوياتية فرعية، ستتعارك وتتجاذب تحت قبة البرلمان لتمرير المحاصصة الهوياتية في ائتلافات حزبية تنتج بالفعل حكومات برلمانية، ليبقى النظام السياسي الأردني كما هو بدون تغيير لا اقتصادي ولا سياسي.
فمن تكون عقليته السياسية مبرمجة على أساس المحاصصة الهوياتية والمكوناتية، لا يمكن أن يبدع حلولا، ولا أن تكون له مُخَيِّلَة سياسية خلاقة قادرة على اختراع الحلول الحقيقية لمشكلات الدولة، أصلا ومن حيث المبدأ، لأن الذهنية المحاصصاتية الهوياتية، هي بطبيعتها ذهنية غير برامجية، وغير مشاريعية، ومنغلقة على مصلحة المُكَوِّن الهوياتي الذي تمثله في بعده الفج والعنصري والضيق، خلافا للذهنية البرامجية والمشاريعية التي تعتبر ذهنية عابرة للهويات الفرعية، وذهنية رجال دولة حقيقيين، يملكون مخيلات سياسية خلاقة ومبدعة للحلول، أو على الأقل بإمكانهم أن يكونوا كذلك، لأنهم متحرِّرون ابتداءً من القيد الهوياتي الفرعي الخانق والقاتل، وملتزمون فقط أمام الهوية الأم.
أي أن "العصبية" السياسية ستصبح سياسةً وقانونا وعرفا حزبيا، بحيث يتوارث الأردنيون مع مرور الوقت عرفا حزبيا يُقِرُّ مبدأ أن هناك مجموعة أحزاب تضم الأردنيين – الشرق أردنيين – وأن هناك مجموعة من الأحزاب تضم الفلسطينيين – الغرب أردنيين – فيزداد شرخ الشعب وتكريس ثنائيته التي دمرته منذ أن أقرها قانون فك الارتباط، بعد أن كانت مجرد حالة ثقافية تشق طريقها بالفساد إلى السيطرة والهيمنة والمحاصصة العشائرية، ليغدوَ الفساد المُقَونَن والمُمَأسَس والمُمَنهَج نفسه هو المرادف المطابق تماما لمصطلح "التحزب السياسي في الأردن"!!
عندما وَجَدَ التحالف الطبقي المتحكِّم في البلاد نفسَه مأزوما، وعندما وجدت دائرة المخابرات العامة نفسَها مأزومة هي أيضا في ضوء الضغوطات الأمريكية الداعية إلى إجراء إصلاحات دالة، على نظام غير مهتم بإجراء أي إصلاحات أصلا، فإنهما – أي التحالف الطبقي الحاكم والمخابرات – دفعا باتجاه ما عُرِف بلجنة الإصلاح التي ترأَّسَها "سمير الرفاعي"، وكان من مُخرجات هذه اللجنة: التعديلات الدستورية المتراجعة بنا إلى الوراء، وفكرة الهوية الجامعة بجوهرها العازل بين الضفتين – على نحو مقابل لطريقة العزل التي ينادي بها الإقليميون من دعاة الهوية الوطنية ذات الطبيعة العنصرية، فكلا الدعوتين الهوياتيتين "الجامعة والوطنية" تنطوي على مكوناتها العنصرية والعازلة والمُمَزِّقة للشعب الأردني وللنسيج المجتمعي الأردني عندما ننظر إلى هذا النسيج في ضوء المحاصصاتية التي تقوم عليها دعوة المنادين بالهوية الوطنية، وفي ضوء التصفوية التي تقوم عليها دعوة المنادين بالهوية الجامعة – وإقرار مؤسَّسَة للأمن الوطني وُضِعت لها سلطات وتشكيلات تجعل كل سلطة في البلاد غير سلطة الملك، مجرد سلطة شكلية بلا أي معنى أو دلالة، وقانون الأحزاب السياسية، الذي كان لابد له من أن يحقِّق غايتين:
الأولى، أن يُمَرِّر خدعة التعددية الحزلية، وخدعة قيام الحكومات القادمة على الائتلافات الحزبية البرلمانية، لأن هذا بالفعل هو ما سيحصل، أي أن الحكومات القادمة ستكون حكومات برلمانية، والبرلمانيون سيكونين خريجي أحزاب سيقال أنها سياسية، فيما هي مجرد واجهات عشائرية ومخيماتية وهوياتية فرعية، ومكوناتية لا تقدم ولا تؤخر في عالم السياسة غير التجاذب الهوياتي القاتل والمهلك.
والثانية، هي الإبقاء على الطبيعة الاستبدادية المطلقة للنظام السياسي، وعلى مؤسسة الفساد المرتبطة باقتصاد السوق متمكِّنة من مفاصل الدولة، لضمان عدم حدوث أي اهتزازات في هذه الطبيعة، التي تنطوي على كل أشكال العدوان على حقوق الشعب الأردني وعلى مصيره.
ولكي تتحقق الغايتان، كان لابد من أن يظهر قانون للأحزاب يصَعِّد حكومات برلمانية من القبيل المذكور، وكان لابد من إعادة إنتاج وتدوير حالة السلطة في البلاد على نحو يضمن ألا يؤثر فيها واقع استثنائي محتمل – وإن يكن بعيدا – يقوم فيه حزب سياسي عابر للهويات الفرعية، وحامل لمشروع تغييري حقيقي، من اختراق الجُدر الإسمنتية لهذا القانون، فيصل إلى البرلمان، محدثا بوصوله زلزالا يُفقِد كل حزم الأحزاب الهوياتية التي أشرنا إليها احترامها ومعناها بل وقدرتها على الاستمرار في تجاذباتها الهوياتية، عند شعب سيرى بأم عينيه وجود حالة حزبية حقيقية تخترق كل الحواجز، وتتموضع في قلب البرلمان كاشفا عوراتها العشائرية والقبلية والمخيماتية، المحاصصاتية.
نعم، بقانون الأحزاب ضمن النظام الأردني تشكيل الأحزاب على النحو المطلوب، وبمؤسسة الأمن الوطني ضمن خط الرجعة في حال خروج الواقع الأردني لسبب لأو لآخر عن الغاية الهوياتية المحاصصاتية المنشودة، وبفكرة الهوية الجامعة ضمن الإبقاء على حالة التجاذب الهوياتي هي الشغل الشاغل لكل الأحزاب التي ستنشأ على الأسس الهوياتية المحاصصاتية. وبكل ذلك ضمن الإيهام بأن تغييراتٍ ماَّ حصلت في الدولة، في حين أن المسألة لم تتجاوز واقعة أننا بصدد خدعة كبرى أعادت تأهيل النظام ليبقى على ما هو عليه من قلب عملية سياسية سيعيش المخدوعون وهم أنهم يمارسون من خلالها عملا سياسيا قد يضمن حصولهم على حقوقهم المسلوبة، ويزداد تمزيق النسيج الاجتماعي، وتشتيت الشعب، وتحييد نخبه القليلة الفاعلة.
بهذه الاشتراطات يفقد قانون الأحزاب الأخير كل الفوائد المنطواة في بعض إيجابياته، وكأن تلك الإيجابيات لم تكن أصلا، وكأننا من ثم أمام السُّم القليل القاتل، يُدَس في العسل الكثير الشهي، وإذن فما هي قيمة حلاوة العسل الذي سنتناوله إذا كان السُّم المدسوس فيه على قِلَّتِه سيقتلنا في نهاية المطاف؟!