د. عادل الربطة - كان فيما أتيح إليّ أن أطّلع عليه يوم كنت مولعاً بحب المطالعة والقراءة، بغية استلهام الحكمة من أخبار الأولين وقصصهم وحياتهم العفوية المحفوفة بسياج الأخلاق الحميدة وذلك حتى قبيل بعثة من بُعث ليتمّم مكارمَها، ويرمّمَ رمائمَها " أن عُيينة بن أبي سُفيان قال: زيَّنني أبي، وأرسلَني إلى عمي عُتبة أخطبُ ابنته.
فأتيتُه، فأقعدني في حِجره، وقال: مرحباً بأقرب ِقريبٍ خطبَ، وأحب حبيبٍ وردَ، لا أستطيعُ له رداً، ولا أجدُ من نفعه بُداً، قد زوجتكَ إياها، وأنتَ أعزّ عليَّ منها، وهي أحظى بقلبي منكَ، فأكرِمها يعذُبْ على لساني ذكرُكَ، ولا تُهِنها فيصغرْ عندي قدرُكَ، وقد قرَّبتُكَ مع قرابتكَ، فلا تُباعدْ قلبي عن صِلَتِكَ!.. "
فرأيتني بعد قراءتي لأول وهلة لتلك القصة - على اقتضاب عباراتها وإيجاز معانيها تلتفّ في عقلي وتستوقفني مراجعتها مراراً، ولعل أحداً لا يدري كيف أخذت بلبّي تلك الكلمات، وتستنطق عقلي - رغماً عنه - بلاغة تلك العبارات، وتأسر قلبي وتستقر فيه معانٍ إخالنا فقدناها ولم نعد نلتفت إليها في هذا الزمن الأغبر الذي تبدلت فيه معظم تلك الأخلاق، وبات البديل عرفاً وقانوناً يضرب المجتمع عنقَ من يخالفه ويناكفه!!
ففي ذلك الزمن وأيام وجود الأخلاق والقيم كان الصبيانُ رجالاً عاقلين راشدين يتنسّمون قمم الأنَفة والرجولة ، وكانت الفتياتُ نساءً عاقلاتٍ راشداتٍ يتنسّمنَ قممَ الأنوثة ويتربعنَ على عرش الحياء، ولا يبدين زينتَهنَّ لكلاب الطريق وحرّاس الأرصفة، يرمين أبصارهن في الأرض ويمشينَ وخلقهن الحياء ( وجاءته إحداهما تمشي على استحياء).
في ذلك الزمان كان ثمةَ غضٌّ للبصر ..
( وأغضُّ طرفي إذا ما بدت لي جارتي.... حتى يواري جارتي مأواها).
وكان ثمة تقديس لقيم البراءة والقداسة المنغرسة في كل أنثى.
كان يُعلَم جيداً مقام البنتِ في قلبِ أبيها ولم تُهَنِ امرأة قطُّ في بيت زوجها، ولا نامتْ ليلةً دامعة العين، ولا مكسورة الخاطر.
كان الشاب يوقن تماماً أن البنتَ قطعةُ قلبِ أبيها إن لم تَكُنْ قلبَه كلَّه، وأنها الغَرْسُ الرقيقُ الذي طالما سُقيَ بماءِ القلب، والضلعُ الضعيفُ الذي حُرَِسَ بأهدابِ العين، وكان الصبيُّ الناوي للزواج - وإن كان بنظر زماننا الأغبر هذا (حدثاً غِرّاً ) ليس لديه أدنى مقومات الأهلية للزواج - يعلم تماماً أنه عما قريب سيجلب عنده من كانت عند أبيها قِدّيسة وستكون عاهنة عنده وأمَةً له في بيته، وستغدو في كنفه، وأنه يلزم عليه أن يكون بحجم أنه أهلٌ لها وقد فارقت أهلها، وبقدر أن يكون لها أماً وأباً وأخاً ، وقد ولجت إلى بيته بعد أن فارقت بيتاً درجت فيه عمراً، بيت أمها وأبيها وأخيها (كوني له أمَةً يكنْ لك عبداً)، وليس (كوني له نِدّاً يكنْ لك ضدّاً) وعما قريب في (المحاكم) ستضع (سيداو) لكل منكما حدّاً!!!
واعلموا أنه لولا أنها سُنة الحياة، والفطرة التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها ما فرَّطَ أبٌ بابنته لزوجٍ ولو كانَ أكرم الناس، فإنَّ فراقها غُربة، وبُعدها وعثاء، وخُلو البيتِ منها مُوحش، ولكنها الحياة، وبهذا تستقيم، وبعضُ الفراق لا بُد منه، ولولا مُغادرة السهم قوسه لم يُصِب.
فترفَّقوا يرحمُكُم الله فما هُنَّ إلا كالأسيراتِ فقيِّدوهُنَّ بالحُب، وكبِّلوهُنَّ بالمعروف، وضيِّقوا عليهنَّ بالعِناق، تتسعْ لكم ولهنَّ الحياة، فالأحضانُ أوسعُ الأماكنِ الضيقةِ على هذه الأرض، وإن كنتَ - أيها الخاطب - مقدَّراً لك في رزقك ، وإن كنتِ - أيتها المخطوبة - قد عرفت أنّ المتقدمَ لخطبتك كذلك، فاعلما كلاكما أن هناك من وعَدَ ووعده الحق (فسيغني الله كلاً من سَعَته).
وأنتم معشر الآباء لا يُفسد عليكم الواقع فطرتكم، ولا تخُونوا مهد الحُب الذي في قلوبكم لعاداتِ المُجتمعِ البالية، وتقاليده التي ما أنزلَ اللهُ بها من سُلطان!
البناتُ لسنَ سلعاً للبيع يُقدَّمْنَ إلى من يدفع أكثر!
البناتُ أماناتٌ، فأدُّوا الأماناتِ إلى أهلها، إلى من ارتضيتَ دينه وخلقه، إلى من رأيتَ أنه قادر على صونها وإسعادها، إلى من أخذها من أهلها ليكون أهلها، وإلا فاتركها عندكَ أيسرُ لكَ ولها! فإنكَ مسؤولٌ عما فعلتَ بها، وعن المَوْرِدِ الذي أوردتها ، وعن الرجلِ الذي جعلتها عنده.