الحقيقة الصعبة والحاسمة أننا أصبحنا محكومين للفضاء الرقمي الذي أعاد صياغة وتشكيل العالم بأسره، فهو أصبح الأداة السهلة المتيسرة للجميع في كل وقت وفي أي مكان وبأي محتوى كان.
كأنه القطيع الإلكتروني الذي كان ذات مرحلة من الحياة القطيع البشري الجسدي، لم تختلف الأدوار والتحشيد والغوغائية حين كان يتم استهداف شخص ما بعد اتهامه بممارسة غير اجتماعية تغلف على أنها غير أخلاقية، فتبدأ حملة هجوم واعتداءات بدنية ولفظية مباشرة بحق الشخص، بل ويتبرع المارّون مصادفةً في كيل الشتائم أو الضرب والتعنيف، دون أن يعرف لماذا قام بذلك وما الأسباب الداعية لتعنيفه وضربه وشتمه.
السؤال الأخلاقي : ونحن نعيش في مجتمعات تحكمها تشريعات ناظمة لحياتها، هل يجوز القيام بممارسات غير أخلاقية بذريعة الدفاع عن القيم الأخلاقية، أي هل تبرر الغاية النبيلة الوسيلة الحقيرة ؟
السؤال القانوني : هل يجوز التشهير والشتم والذم والردح والقدح بحق أي شخص عبر وسائل الإعلام والتواصل بذريعة النخوة والحميّة ؟
إن الجريمة موجودة عبر التاريخ البشري منذ قصة هابيل وقابيل، لكنه كان يتم التعامل معها كحالة جرمية ويتم اتخاذ الإجراء القانوني بحق مرتكبها، دون أن يدري عن جريمته غير عديد محدودٍ من البشر.
فكيف هي الصورة الآن في ظل فيضان غثاء من المنشورات التي لا تتطلب لنشرها والوصول إليها في أية بقعةٍ من العالم غير لحظات كتابتها وإرسالها بالنقر على كبسة « أدخل» ، لا بل الكارثة أن المنشور وهو في طريقه للعالم يتحور وتتداخل معه حكايات وتفاصيل قد لا تكون تمتّ بأية صلةٍ بموضوع « الهاشتاج»، فيدور حديث عن أصل وفصل الشخص، وتبدأ حكايات عن أهله وعائلته وقريته ومؤسسته، فتبدأ التفريعات عن الخبر الرئيس ويبدأ حديث آخر تماماً كما حدث عند مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة، التي جاءتها رصاصات الغدر لتفجّر رأسها البريء وهي تؤدي عملها المهني ورسالتها الإنسانية، ليتحور الحديث عن دينها وعن جواز الترحّم عليها والاستغفار لها، حتى كادت أن تضيع القصة الأصلية المتمثلة في العدوان الغاشم القاتل الآثم.
إن هذا التحشيد والتجييش الإلكتروني الذي يفضح كل ستر، ويجري كفيضان لا مجال لمواجهته أو الوقوف أمامه مهما كان الرأي موضوعياً ومقنعاً وثابتاً بالأدلة والبراهين، فهو نهر لا يقف جارفاً في طريقه كل شيء وأولها الحقيقة الواضحة الناصعة التي يلطخها ويلوثها أثناء جريانه بما ينتج عنه من أوساخ وغبار التضليل الإعلامي الموجّه.
كنا نخشى على أسرارنا من أن تنتقل بين صديقين أو جارين أو قريبين، ونذعر من أن يواجهنا أحدهم بمعرفة أسرارنا، أما الآن فقد أصبح كل شيئ مشاع على شريحة هاتف تنتقل خلال ثوانٍ إلى أقصى بقاع الكرة الأرضية حيث يوجد إنسان يصل إليه الإنترنت.
هي أسئلة أخلاقية ووجودية واجتماعية وتشريعية تحتاج إلى كثيرٍ من المراجعة والتأمل والبحث عن كيفية مجاراة فيضان الفضاءات الرقمية، فقط بأن نستطيع الوصول إلى ضفافها لا أكثر.