المنطقة الحرة ليست تلك المعروفة في البلاد، خاليةً من دفع ضريبة الجمارك على البضائع المستوردة اليها، هذا مسمى حكومي وظيفي اقتصادي فقط، المنطقة الحرة في حياة الانسان هي مساحة التفكير الحر، غير المقيد بأية ضوابط تحدده من الانطلاق بأقصى سرعه وبكل الاتجاهات، وهذا لا يعني حرية التعبير عنه، فهناك فرق بينهما، حرية التفكير تختلف عن حرية التعبير، فليس شرطا ان اعبر عن كل ما أفكر فيه، لان للحرية حدود عندما تتعلق بالآخرين.
عندما قال تعالى؛ أفلا يتفكرون، أفلا يتدبرون، فانظروا كيف بدأ الخلق، وغيرها من آيات الحث على التفكير - لم يحدد التفكير رغم محدودية العقل البشري بأية ضوابط علمية او دينية او زمانية او مكانيه، ولم يحددها بأشخاص دون غيرهم، فهو امر إلهي للجميع، وهذا ما يعطي للتفكير الحر ميزاته الابداعيه بالاتيان بكل ما هو جديد مفيد ذي أبعاد غير مطروقة سابقا. تلك المنطقة الحرة من التفكير لا تعترف بحدود جغرافية أو زمانيه، او بمرجعيات دينية، فكم من تلميذ سبق شيخه، او شخصيات مرموقة، فمعظم المكتشفين والمخترعين لم يكونوا من الطبقات الارستقراطية، وليس شرطا ان يتبع التفكير الحر رهبان الكنائس او معتكفي المساجد او كهنة المعابد، فقد يكون المفكرون بسطاء دعتهم الحاجة لتفعيل المنطقة الحرة، فأنقذوا البشرية او سهلوا حياة البشر بما أخرجته عقولهم الحرة من اختراعات دخلت الى حيز التنفيذ والاستخدام.
هذا ليس كلاما من الخيال، بل واقعا نعيشه، بدليل اختراق التفكير البشري لعمق الفضاء، وسبر غور البحار، بل هناك البعد الرابع الزمني كذلك، فعاد الفكر البشري بالزمن للوراء ليعرف تاريخ الحضارات المنسية، وحلل آثارهم وقدر اعمارهم وطرق عيشهم وادواتهم، ولولا حرية التفكير الزمني لما وصلوا لذلك، ولولا حرية التفكير الفراغي لما عرفنا بالادلة اين قوم ثمود وعاد والكنعانيين والآشوريين والاراميين وغيرهم، ولما عرفت حضارات الصين واوروبا وتاريخ العرب والمسلمين، ولما اكتشفت الامريكيتين، ولما عرف ان الارض كروية اصلا - رغم ان غاليلو مكتشفها خسر حياته جراء ذلك الاكتشاف، وليس الامر مقتصرا على حرية الفكر الزمكاني فقط، بل تعدى ذلك الى مختلف الاختراعات الوجودية، الكهربائية والميكانيكة والاليكترونية، التي ننعم بها حاليا، من وسائل تنقل برية وجوية وبحرية حديثة، ووسائل تواصل مسموعة ومرئية سريعة بعيدة المسافات. لكن ليس هذا مقصد المقال، بل ما اود ايصاله فكرا مختلفا قليلا.
المنطقة الحرة بالتفكير بواقعنا المحزن هذا تعني ان نتفكر بحلول مناسبة لمتطلبات ما عادت بكماليات ورفاهية، بل هي أساسيات وضرورية، وحرية التفكير المرجوة لا يفترض ان تتقيد باجراءات مفروضة تحدد منطلقاته وتكبح مقاصده، ولا اعني ما يعنيه البعض بالتفكير خارج صناديق - هم من وضعوها، لينقلونا الى صناديق اكبر منها لا زالت تحتجز هي الأخرى اشعة التفكير دواخلها. لكني اعني التفكير الحر - ولو مؤقتاً كما هي المناطق الحرة - بدون اية قيود موجهة، او ضرائب ذهنية، او صناديق حدودية ثلاثية الابعاد، متسلسة القيود والاغلال.
كلنا يحنّ لنستالوجيا الزمن الجميل، لكني متأكد ان احدنا لو وضع في قرية نائية، بدون وسائل تواصل، واعيد به لجيل السبعينيات او الثمانينيات لن يطيق عيشا بها، بل قد يموت بجلطة قلبية حادة من فوره، فلقد خلقنا لزمان غير زمان ابائنا واجدادنا، تماما كما مات اهل الكهف بعد صحوتهم من نومهم لثلاثمئة وتسع سنوات فوجدوا العالم قد تغير، والعملة ولباس الناس والتجارة، فماتوا من فورهم. أو على الاقل سنعاني الامرين كما عانى روبنسون كروزو بحياته في تلك الجزيرة النائية، بعد ان قذفته اليها امواج البحر التي اغرقت سفينته. فالتفكير الحر يعني حياة ذات تجدد وتطور، لا قيود فيها جراء صناديق وهمية متوارثة تحدد انطلاقه من جميع الجهات والازمنة.
عندما خرجنا أطفالا من بطون امهاتنا لم يخرج معنا قيد فكري منمط باتجاه ممغنط - لبوصلة ما، فلقد ولدنا احرارا، ومنذ النفس الاول بدأت القيود وضيق الدنيا، اولها ذلك القماط الذي كانت امهاتنا تقيد فيه أيدينا مع الارجل حتى تختلف اضلاع الطفل الاربعة ببعضها - ولا ادري لماذا ينصح بذلك، ثم تبدأ قيود الحياة بالتزايد، بعضها يفرض بثقافة العيب، والاخر بثقافة البرستيج، ومنها بثقافة التقليد والعادات، وثقافة الوظيفة، واقلها تأثيرا يكون بثقافة الحرام الدينية، التي لا محاسب على تركها الا الله تعالى، وفي الحياة الاخرة فقط، لذا تكون هي الأضعف عند البشر الا ما ندر، الى ان يدخل القبر، ولكن قبل ذلك الدخول الاخير، يكشف عنه البصر، وتزول الغشاوة وتحتد البصيرة، ليعلم ان شريط حياته كان مليئا بقيود تلو قيود، وانه خسر الامتحان الذي لطالما نادت بالنجاح فيه حرية المنطقة الحرة في قعر دماغه، ولكنه كان يرفض الاستماع لها، ويقول في نفسه؛ هذا ما وجدنا عليه آباؤنا وانا على آثارهم لسائرون، ويكون بذلك قد الغى ميزة العقل والتفكير، واقتصر على النمطية والقيود - ولكن بعد فوات الاوان.
خلاصة القول؛ لكل حياة متطلبات تختلف عن سابقاتها من الحيوات، والسبيل الوحيد للتماشي معها هو قدرة العقل البشري على حرية التفكير باستيعابها ومواكبة تطوراتها، والمنطقة الحرة بالدماغ وجدت لهذه الغاية، فهي المحرك الرئيس لاستمرار الوجود البشري في بيئاته المتغيرة عبر الازمان والامكنة، فما يصلح سابقا قد لا يصلح حاليا، وما يصلح هنا قد لا يصلح هناك، وما وجد الانسان في الارض الا ليكون خليفة الله فيها، يعمرها بما يناسبه، ويعبد الله خالقه بما أمره، فيما عدا ذلك هو قيود وهمية من فرضيات البشر على بعضهم البعض، وصناديق حدودية تتسع باستمرار لكل افكارهم، لتطفئ نيّرها، وتخمد اشعتها، بحيث لا تخرج منها الا من خلال ثقوب صغيرة، هم من ابتدعوها لتقنين اتجاهاتها بما يخدم مصالحهم. المنطقة الحرة في التفكير لا زالت هناك، لم ولن تغلق بعد، وتنتظر البشري منا ليُدخل فيها مدخلات جديدة، لعلها تُصدر مخرجات مفيدة.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان