أصدق ما سمعته، قاله أحد المسؤولين، وهو “أننا جميعا مخنوقون”، أقصد الدولة والمجتمع معا، داخليا نواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة، لا يوجد لدى الحكومة من خيارات إلا الاعتماد على جيوب المواطنين، نواجه، أيضا، أزمة غياب ثقة استدعت لدى المواطنين “تركة” ثقيلة من عجز الحكومات وأخطائها، نواجه، ثالثا، ارتباكا بإدارة الشأن العام، تسببت فيه خطابات متضاربة ومستفزة من بعض المسؤولين، وافتقاد لمركز أزمات حقيقي يتولى مهمة “طبخ” القرارات وتسويقها.
الأردنيون يشعرون أنهم “مخنوقون” أيضا، أعداد الفقراء تصاعدت
(نحو 25 %)، البطالة أصبحت شبحا مخيفا يطارد مئات الآلاف من الشباب، الغلاء وصل لكل بيت، والقادم أسوأ، أما الكلفة الاجتماعية فمن الصعب تقديرها، اللافت أن لدى معظم هؤلاء قناعة، لم تجد من يدحضها، وهي أن ما نتعرض له ليس صدفة، وإنما بفعل فاعل، ولا يوجد إرادة جادة لتغييره.
خارجيا، تواجه الدولة أزمة عميقة، فالمشروع الصهيوني يتمدد بشكل متسارع، وحدنا نحاول أن نتصدى له، لكي لا يكون ذلك على حسابنا، العواصم من حولنا تغيرت، بعضها سقط أو استغرق بالحروب والصراعات، وبعضها تحول نحو أولويات لم نعد على قوائمها، الأصدقاء والحلفاء مشغولون بأنفسهم بعد حرب أوكرانيا، أما الأدوار التي كنا نراهن عليها فيما مضى فلم تعد موجودة.
إذن، إحساسنا أننا “مخنوقون” ليس مجرد وهم، وليس اقتصاديا فقط، وإنما سياسيا واجتماعيا ونفسيا، داخليا وخارجيا، بأيدينا وبأيدي غيرنا ممن يسعى لخنقنا، الاعتراف بهذا الواقع، الآن، واجب وضروري، وإن كان متأخرا، أما الانشغال بالتلاوم حوله، وتصنيف المسؤولين عنه ومحاسبتهم، فقد يبدو وجيها، لكن ليس هذا وقته.
لأننا، ببساطة، جميعا؛ الحكومات والإدارات، والمجتمع بأطيافه وممثليه كافة، دعك من الآخرين المتربصين، مسؤولون عما حصل، صحيح إدارة الدولة تتحمل الجزء الأوفر من الأخطاء والتراكمات، لكن أخطاء المجتمع، بالصمت أو الانكفاء أو التكيف مع الوضع القائم، منحت الحكومات “الكرت الأبيض” للاستمرار على الطريق ذاته، وبالتالي فهو شريك في المسؤولية.
الآن يجب أن نخرج من حالة الاختناق لكي نتنفس من جديد، هذا هو العنوان الوحيد الذي يجب أن نتوافق عليه، ونتضامن لإنجازه، على الرغم من كل المرارات التي بداخلنا، ليس، فقط، لأن ذلك مصلحة لنا جميعا، وخيار وحيد لا نملك غيره، وإنما لأن عكس ذلك يعني تراكم الخسارات والخيبات، والأهم الذهاب إلى فوضى لا حدود لها، ومستقبل مجهول محفوف بالمخاطر، ولنا فيما حولنا أمثلة ونماذج لا يكاد ينكرها أحد، كما أن لنا فيما يراد لنا أن نصل إليه من مخططات خبيثة، ووصفات للحلول الجاهزة، وكأننا أرض بلا شعب، ما يلزم من أدلة وأسباب، لتجاوز كل خلافاتنا من أجل إنقاذ البلد.
قلت: “إنقاذ البلد”، وأنا أقصد ذلك تماما، ليس دفاعا عن الحكومة التي تشعر فعلا بالاختناق، وليس تبريرا لأخطاء متراكمة ولدت لدى الأردنيين حالة غير مسبوقة من الغضب والخوف، وربما الرغبة بالانتقام، حتى من أنفسهم، وليس دفاعا عن قرارات مقبلة، ربما، تخنق معيشة الأردنيين، وتجهز على ما تبقى لديهم من صبر وأمل، لا أبدا، ما أقصده هو إنقاذ البلد من هذه الأزمة العميقة التي تهدد الدولة بوجودها، لا بحدودها فقط، وإنقاذ الأردنيين مما وراء هذه الأزمة من تداعيات خطيرة، لا يستطيع أحد غيرهم أن يواجهها.
أما كيف؟ فلدي ملاحظتان (نصيحتان إن شئت)؛ الأولى للدولة، عنوانها “كفى”، تبدأ بطاولة حوار وطني حقيقي، وتنتهي بوضع خطة يتوافق عليها الجميع لإدارة الأزمة، وتجاوزها بأقل ما يمكن من خسارات، الثانية للأردنيين، أن يعتبروا مهلة الأشهر الستة المقبلة امتحانا للحكومة والإدارات، وأن يسلفوها ثقتهم مؤقتا، بشرط إنجاز مهمة الحوار التي ذكرتها سلفا.
وصفة المصالحة هذه بين الدولة والأردنيين ضرورية، وهي المفتاح الوحيد للخروج من الإحساس العام أننا جميعا مخنوقون، ثم إنقاذ البلد مما هو فيه، هل من مستجيب؟ لا أدري.