يكون الحديث سهلا، حين يتناول قطاعات مستقلة بذاتها وقوانينها ومدخلاتها ومخرجاتها، وتداخلاتها مع القطاعات الأخرى، وقد يكون القطاع الزراعي مثلا، مثالا على التشابك والتعقيد، لكنه في النهاية محدود، ويمكن التحدث عنه بخطط وارقام واستراتيجيات حاسمة، كما يجري اليوم، وكذلك نقول عن القطاع الصناعي والسياحي والصحي، فهي أقل تعقيدا وتداخلا بالقطاعات الأخرى، مقارنة بالقطاع الزراعي، لكن يبلغ التعقيد درجة صعبة، حين نتحدث عن قطاع التعليم بمستوييه، المدرسي والعالي، فهو دماغ التنمية والحياة والبناء والعطاء في أية دولة ولدى أي شعب..
السؤال في العنوان، ورد بالصيغة نفسها لكن عن التعليم العالي، على لسان وزير التعليم العالي الدكتور وجيه عويس، قبل أيام في إحدى الفعاليات الحوارية، بالإضافة لسؤالين مهمين آخرين، هما على التوالي:
هل تقود مؤسسات التعليم العالي المجتمع أم هو من يقودها؟ والسؤال الثالث: ما مصير مقولة السوق وتوافق المخرجات التعليمية مع حاجة السوق؟.
لكنني في هذه المقالة أتساءل عن التعليم بمستوييه، النظاني المدرسي والعالي، هل ما زلنا نسيطر عليهما حقا؟ وإن فقدنا السيطرة فهل يسهل الحصول عليها ثانية؟
كل الصراعات إن جاز لي تسميتها بهذا الاسم، التي حدثت في الأعوام الأخيرة حول التعليم المدرسي، والتي بلغت حدودا سيئة قبل ثلاثة أعوام، حين تحولت من صراع أجندات مطلوب حول ملف التعليم المدرسي، لتصبح مجابهة كاملة مع أهم محاور العملية التعليمية، حين أعلن المعلمون إضرابهم الشهير، الذي قضى على مفهوم السيطرة والتوجيه بشكل كبير، لندخل بعدها في جائحة كورونا والتعطيل القسري للمدارس، وتسللت عدة أفكار وإجراءات إلى العملية التعليمية، وقطعت شوطا، كتغيير بعض المناهج، باستنساخها من تجارب أخرى دون رجوع إلى أحد، وفي حين أننا كنا وما زلنا نطالب بتطوير أسلوب التعليم المدرسي في المناهج العلمية، إلا أن تغييرا طرأ على بعض المناهج العلمية، لم يتم تحضير معلمين أكفاء للتعامل معه، فالتغيير شمل مناهج كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء، فيه جانب كبير يعتمد على البحث والتفكير والابتعاد عن التلقين، لكن بلا خبراء في هذا المجال ولا حتى أدوات مناسبة، كالمختبرات والمشاريع الأخرى المتعلقة بمثل هذا الأسلوب من التعليم، بل إن الطلبة الذين درسوا في هذه المناهج أصبحوا على أعتاب مرحلة السنة الأخيرة «التوجيهي»، ولا أحد يمكنه الجزم بمستواهم، وهم في كل عام جديد مع هذه المناهج، لا يجدون المعلمين الأكفاء ولا المدارس المهيأة لمناهجهم.. وهم سيدخلون التوجيهي العام القادم، ومع نهايته سيتوجهون للجامعات، وهم الذين -ربما- يعنيهم د وجيه عويس، حين قال في تلك المحاضرة بأننا بحاجة للتغيير في سياسة القبول في الجامعات!.
لا أعتبره صعبا أن تقوم الجامعات بإعداد برامج تدريس جديدة فيها، وأن تستحدث تخصصات جديدة، ويكون لها كوادرها التدريسية والفنية، هذا ليس صعبا على الجامعات، لكنه صعب جدا في المدارس ومراحلها المختلفة، ولا سبيل إليه إلا بجهد يمتد 12 عاما، حيث يبدأ مع إعداد مناهج وكوادر وأدوات وأسلوب تعليم للصف الأول الأساسي، ثم متابعتهم بنفس الإعدادات للصف الذي يليه حتى عام التوجيهي، وهذا بالضبط ما تم التوافق عليه عام 2016، حين أطلق الأردن الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، وأعلنت الدولة حينها بأننا بحاجة 11 عاما لننفذها بحذافيرها، لكن كل المتابعين يعلمون بأنه تم القفز إلى مراحل متقدمة من تلك الاستراتيجية، وتجاوز مراحل أولية مهمة في هذه العملية التراكمية من بناء الإنسان والتفكير والهوية، وأصبحنا اليوم نتحدث عن التعليم الجامعي.
لدينا ألف مثال على عدم قدرة الجامعات على «الشفافية» ولا العدالة في قبول الطلبة الجدد، وهذه أول العقبات في طريق منح الصلاحية للجامعات بأن تكون صاحبة القرار في قبول الطلبة الجدد، في الوقت الذي تمكنا خلاله من تثبيت ثقافة عادلة في القبولات الجامعية، المعروفة مكتب التنسيق والقبول الموحد للجامعات، التابع لوزارة التعليم العالي، ورغم الكوتات الموجودة إلا أن جداول القبولات الصادرة عن هذا المكتب فيها عدالة كبيرة، اذا ما قورنت بقوائم تصدر عن كل جامعة..
أسئلة التعليم ربما نراها اليوم من بين آخر الأسئلة التي تتطلب إجابات، بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية، لكنها هي أهم الأسئلة ولا حياة أو مستقبل لبلاد ومجتمع لم يدشنوا أسلوب ومناهج ومدرسي ومؤسسات تعليم ناضجة ومستقرة وتلبي احتياجات يومنا وتتهيأ لبناء مستقبلنا.