سلامة الدرعاوي - ما زالت معدّلات التضخم في الأردن (3.59 % لشهر نيسان الماضي) دون مستوياتها الحقيقية كما الحال في الاقتصادات الأخرى وتحديداً في الجوار، فانعكاس الأسعار العالميّة محليّاً يسير ببطء شديد، لعدة أسباب منها: الرقابة الحكومية وتنامي حالة الاستياء الشعبي التي تدفع التجار بالحد من رفع السلع بالشكل الذي عليه السلع عالميا.
لكن ما زالت حرب الأسعار العالميّة في بداياتها، وكل التوقعات تدلّل على أنها قد تستمر لعامين مقبلين على أقل تقدير، وبالتالي سيكون هناك مجموعة ارتفاعات قادمة على معظم السلع والخدمات، وهذا أمر طبيعي طالما بقيت أسباب الارتفاعات عالمية خارج إرادة وقدرة الدول المستوردة ومنها الأردن.
أمام هذا الإعصار الذي يفتك بالأمن المعيشي للأردنيين، وتراجع القوة الشرائية لدخولهم، لا يمكن للحكومة أن تقف مكتوفة الأيدي تجاه هذا المشهد الذي في حال استمراره دون تدخل فإنه يشكّل أرضية خصبة لعدم الاستقرار الاجتماعيّ، وبالتالي فإن الدولة بمؤسساتها المختلفة وعلى رأسها الحكومة تبحث عن الوسائل الكفيلة بوقف النزيف الحاصل بدخول المواطنين، حتى لو تطلب ذلك تضحية ماليّة حكوميّة.
بما أن الخزينة تعاني أصلا من عجز مالي مزمن يناهز 3.356 مليار دينار لسنة 2022، وإذا ما أضفنا أن كلف ارتفاع الأسعار العالميّ سيساهم هو الآخر بتحميل الخزينة مبالغ ماليّة جديدة نتيجة قراراتها في تثبيت الأسعار لبعض السلع التي تدعمها أصلا مثل المحروقات والقمح، فإن الخزينة ستتحمل كلفا إضافية غير مرصودة في قانون الموازنة بقيمة قد تناهز الـ800 مليون دينار، منها 500 مليون دينار فقط مترتبة على المحروقات التي باتت جميع سلعها باستثناء البنزين بنوعيه مدعومة من الخزينة، وباقي المبلغ سيكون مترتبا على الخزينة نتيجة قرار تثبيت أسعار الخبز، حيث إن آخر عطاء اشترت به الحكومة القمح كان بسعر 485 دولارا للطن، بعد أن كانت أسعاره لا تتجاوز في أسوأ الظروف 230 دولارا، أي نسبة الارتفاع وصلت للضعف تقريباً، وهي مرشحة للزيادة مع تنامي شدة الحرب الروسية الأوكرانية.
أمام تحديات المشهد الداخلي للخزينة وفي ضوء تنامي الضغوط الماليّة عليها فإن الحكومة أمام خيارات صعبة للغاية (أحلاها أمرها)، لا يوجد أمام الحكومة سوى إعادة النظر في موضوع مخصصات الدعم العشوائي الشامل الذي تقدمه وتتحمله الخزينة، والذي يستفيد منه الفقير والغني على حد سواء.
نعم نظام الدعم المعمول به في الأردن نظام شامل لا يفرق بين المستحقين وغير المستحقين وهو يشكّل شكلا من أشكال الهدر الماليّ في دولة تعاني خزينتها من عجز مالي مزمن وخطير.
في ظل استمرار الضغوطات على الاقتصاد، وفي حال عدم اتخاذ القرارات الرشيدة المتوازنة بين متطلبات الأمن المعيشي والاستقرار الماليّ، فإن الأمور ستتراجع كثيرا، وستكون هناك كلف كبيرة سيتحملها الاقتصاد والأجيال ولن يكون بمقدور المملكة ضمن إمكانياتها ومواردها تحملها دون اتخاذ قرار جراحة عميقة وجريئة في وقتها، لذلك التحرك الراهن وبسرعة من قبل الحكومة سيخفف من وطأة هذه الضغوطات على طرفي المعادلة الصعبة، وهنا الخزينة والمواطن معا، والتضحيات مطلوبة من الجانبين وليس من جانب واحد.
المشهد الاقتصاديّ الراهن الصعب يضع خيارات صعبة جداً أمام الحكومة للتحرك لوقف النزيف الحاصل في دخول الأسر الأردنيّة، فالخزينة غير قادرة على زيادة استثنائية لرواتب العاملين، وليس لديها مخصصات لدعم السلع بشكل مباشر ومن ثم تسعيرها، لذلك فإن الخيار الوحيد أمام الحكومة هو فقط تقديم مبلغ مالي مقطوع.
نعم مبلغ مالي مقطوع لمرة واحدة يعتمد على دراسة سلة الاستهلاك للأسرة الأردنيّة، والتي تتضمن قائمة أبرز السلع الأساسية التي شهدت ارتفاعات كبيرة وتشكّل جزءا مهما من استهلاك المواطن وتستحوذ على غالبية دخله من نقل ومحروقات ومواد غذائية أساسية لا غنى عنها في احتياجات المواطن ولا يوجد لها بدائل.
نعم الحكومة مطالبة بالتدخل السريع لوقف النزيف الحاصل في دخل المواطن، والخيارات محدودة لكنها قابلة للتطبيق، والمبلغ المقطوع هو أكثر السيناريوهات قابلية للتطبيق، وكلفته الأقل على الخزينة، فهل تمتلك الحكومة الجرأة على الدخول بحوار اقتصادي علمي حول هذا الموضوع في هذا الوقت الراهن؟