حسين الرواشدة - أغلبية الأردنيين يصرخون جراء اتساع رقعة الفقر وارتفاع الأسعار، بالمقابل ثمة أقلية من الأردنيين ذاتهم يصرخون احتفاء بمطرب أو مطربة، وإشهارا لحفلة بفندق فاخر، صحيح أن الصورتين تعكسان حالة المجتمع الطبيعية، حيث يوجد فقراء وأغنياء، لكن المفارقة تكمن في العمق، حيث المجتمع يبدو مقسوما بين طبقتين، واحدة تشكل قاعدته العريضة، وتستند للقناعة والصبر والرضا، وأخرى ضئيلة، تجاهر بثرائها، ولا تكترث لغيرها، وبعضها يفجر بما لديه من نعمة.
استدعاء هذه المقاربة مهم لأكثر من سبب، (ليس من بينها أي خصومه مع الفنون الجميلة)، الأول أن مجتمعنا أصبح مقسوما بين طبقتين، إحداهما تملك ما يكفيها ويزيد، و”يتبرطع” أصحابها بالثراء، ويعيشون في قصور أسوارها عالية، وهؤلاء يتوزعون بين البرجوازية بالوراثة، والآخرين الذين نزلت عليهم الثروة بمظلة الفساد.
أما الطبقة الأخرى فهي من مجاميع الفقراء الذين انضمت إليهم الطبقة الوسطى، فأصبحوا يشكلون الأغلبية، ويتوزعون على مختلف الوظائف والمهن، المشكلة ليست بالفقر والغنى، وإنما بالجوع حين يصبح كافرا، والغني حين يتحول إلى فاجر.
السبب الثالث، تراجع الذائقة العامة، وسيادة ثقافة التفاهة، الظاهرة هذه ليست محلية، وإنما عالمية للأسف، ومجتمعنا الذي ما يزال صامدا نسبيا، ومحافظا بقدر ما يستطيع على قيمه وأخلاقياته، لم يسلم من سطوة “التسفل”، الذي يروج له إعلام منزوع من القيمة والفضيلة، وربما الإنسانية أيضا، تشويه الذوق، وربما تخريبه، هو جزء من عملية هدم الإنسان والمجتمعات، وتحويلهما لمجرد أشياء، وسلع قابلة للبيع في السوق، أي سوق.
أما السبب الثالث فيتعلق بمحاولة تحطيم “القدوات” والرموز الملهمة، واستبدالها بقدوات أخرى، ليس في مجال الطرب فقط، وإنما بكافة المجالات، فلم تكن صدفة أبدا ما يجري من تكسير للوسائط الاجتماعية والسياسية والفنية، لحساب وسائط أخرى يتم صناعتها وترويجها، الهدف هو إطفاء الفاعلية، وتعميم الاستهلاك، ثم أبرز نماذج ممسوخة لإلهاء الناس عن قضاياهم وإشغالهم بصور مغشوشة، تنزع منهم طاقاتهم وحيويتهم، ثم تجهز على ما تبقى لديهم من تطلعات للحرية والعدالة والحياة الطيبة.
السبب الرابع، إشاعة ثقافة “الفرجة” والامتثال للصورة باعتبارها الحقيقة، المجتمع هنا يتحول إلى مجتمع فرجة، الناس فيه تجلس على المدرجات كمتفرجين بانتظار من يوجههم بالصورة، بحيث يفقدون قدرتهم على التمييز والاختيار، ويتحولون إلى عاطلين ومشغولين بقضايا تفرضها عليهم الميديا، بأنواعها المختلفة.
في عصر الفرجة لا تتحدد القيمة، سواء أكانت سياسية أو فنية أو ثقافية أو إعلامية، على أساس الجدارة أو الاستحقاق، وإنما على أساس المظهر والصورة، فنحن للأسف أحيانا لا ننتسب للوطن من خلال عالم أو رمز سياسي، وإنما من خلال نجم يلعب بالملعب، أو آخر يصرخ على مسارح الطرب الرخيص.
يمكن أن استطرد بتقديم المزيد من الأسباب التي تؤكد أن مجتمعنا تعرض لحملة سياسية وإعلامية، ساهمت بتكريس ثقافة الاستهلاك، وإشاعة الخفة، وإنتاج شخصيات مسطحة، والترويج لمهرجين ولاعبين يتقافزون على “سيرك” الدين والثقافة والسياسة، لكن السؤال الأهم هو: من هيّأ المناخات والبنية التحتية لمثل هذه النزعات التي انتصرت للغرائز، على حساب العقل والوجدان والأخلاق الأصيلة، الإجابة لا تنحصر في الإعلام فقط، وإنما في السياسة والاقتصاد، ولا تتحمل مسؤوليتها المجتمعات، وإنما الدول أيضا.