خمسة قرود وقطف موز وبلد بدها اصلاح
يحكى ان باحثا اجتماعيا جهزغرفة تجارب بحيث يرى ما يحدث بداخلها، وجعل في جدران الغرفة الاربعة مخارج للمياه المضغوطة بحيث يتحكم بها من خارج الغرفة، ثم وضع في الغرفة خمسة قرود – اطلق عليها وصف القرود القديمة - ودلّى من سقف الغرفة حبلا ربط بطرفه قطف موز، ووضع تحته مباشرة طاولة لمساعدة القرود على الوصول الى قطف الموز.
سرعان ما اغلق الباحث الباب، حتى تحرك واحد من القردة ليحصل على موزة من القطف، وما ان صعد على الطاولة في محاولة منه للوصول الى الموز، فتح الباحث مخارج الماء المضغوط عليه وعلى جميع القردة في الغرفة، وهو يعلم علم اليقين كره القردة للتعرض للرش بالماء المضغوط، فقفز القرد عن الطاولة وانضم الى بقية القردة التي تجمعت فزعة ترتجف من الخوف في زاوية الغرفة. وبعد ساعة حاول قرد آخر ان يتسلق فوق الطاولة لقطف الموز، فعاد الباحث وفتح الماء عليهم جميعا مرة ثانية، وهكذا استمر الباحث والقردة في إعادة الكرة المرة تلو الاخرى، بعد مضي اسبوع كامل على هذه العملية، ادركت القردة ان رش الماء هو نتيجة حتمية لاية محاولة من قبلهم للحصول على الموز، ولذلك قاموا بتفادي محاولة قطف الموز او الاقتراب من الطاولة ضمانا لسلامتهم وراحة بالهم.
في الاسبوع الثاني، قام الباحث بازالة مضخات المياه من الغرفة، ثم عَمِد الى ان يُخرِجَ احد القردة القديمة من الغرفة ويُدخِل مكانه قردا جديدا لايعلم شيئا عن عملية رش الماء المضغوط. بطبيعة الحال، هم القرد الجديد بتسلق الطاولة ليقطف موزة، فما كان من بقية القردة التي سئمت التعرض للرش بالماء الا ان امسكوه واشبعوه ضربا حتى يبتعد عن الطاولة، فابتعد وهو مستغرب ومستهجن لتصرف بقية القردة. واعاد القرد الجديد الكرة عدة مرات، وتعرض للضرب المبرح في كل مرة حتى فهم وتوصل الى نفس النتيجة التي توصل اليها رفاقه الاربعة من قبله.
في الاسبوع الثالث، اخرج عالمنا قردا آخر من القرود القديمة وادخل قردا جديدا لا يعلم شيئا عن قصة الموز والماء والضرب المبرح، فتوجه القرد الجديد الى الطاولة ليقطف موزة، وقامت بقية القردة، بما فيهم القرد الجديد الذي لا يعلم شيئا عن مضخات الماء، بضربه ضربا مبرحا حتى ارتدع. وهكذا استمر الباحث باستبدال القردة القديمة بقردة جديدة على مدى ستة اسابيع حتى انتهى من استبدال جميع القردة القديمة التي رُشت مرة واحدة على الاقل بالماء بقردة جديدة. الطريف في الامر ان القردة الخمسة الآن لا تعلم شيئا عن احتمالية رش الماء، ولكنها وبالاجماع تؤمن بحتمية الضرب المبرح لكل قرد تسول له نفسه الاقتراب من الطاولة وتسلقها، رغم ان في قطف الموز الآن خير لجماعة القردة.
ما علاقة هذه القصة المتداولة بكثرة في اروقة الجامعات ومحاضرات الادارة وعلم النفس والاجتماع وغيرها بالفساد في الاردن؟
ما هو الفساد؟
الفساد الذي نتحدث عنه هنا هو استغلال الامتيازات الممنوحة او السلطة المُؤتَمَنَة لتحقيق مكاسب شخصية من دون وجه حق.
لا بد وان كل واحد منا تعرض في حياته اليومية، او سمع عن صديق او قريب تعرض الى موقف اضطر فيه الى تقديم رشوة الى احدهم أو "عمل واسطة"، لتسهيل او تعجيل معاملاته في احدى الدوائر الحكومية. كذلك رأينا وسمعنا جميعا عن البعض الذين يأخذون – لا اريد ان استخدم كلمة يسرقون، "لانها ثقيلة على المعدة" - من ممتلكات صاحب العمل او ينتقصون من ساعات الدوام، سواء كان صاحب العمل هذا دائرة حكومية او شركة خاصة، من دون وجه حق.
لقد تعودنا على التعايش مع ثقافة الفساد هذه، واصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا في الاردن، وعلمناها لابنائنا وبناتنا، وزييناها لهم، وعاقبنا اعداءها من اصحاب الضمائر الحية في مجتمعنا - والامثلة كثيرة على ذلك - حتى بتنا جميعا نعتقد بان القليل من الفساد ليس بمتوقع فقط، وانما هو ضروري. فكثيرا ما نسمع المقولة "طيب راتب الموظف بس 200 دينار، كيف بدو يعيش اذا ما تبرطل؟"، عبارات نرددها دون ان نفكر في انعكاساتها السلبية على مجتمعنا. فاذا افترضنا ان اخذ الرشوة لاسباب معينة مقبول، وسمينا هذا النوع من الفساد "الفساد الاصغر"، فما هي هذه الاسباب؟ هل نسمح بالرشوه ونتغاضى عنها اذا كانت لغرض توفير لقمة العيش للموظف المسكين وأبنائه؟ وماذا بعد لقمة العيش؟ هل نتعداها الى ضمان حياة كريمة؟ وما معنى الحياة الكريمة؟ هل معناها طبختين مع لحمة في الاسبوع؟ ام خمس طبخات مع لحمة؟ وما نوع السكن المقبول لضمان حياة كريمة؟ غرفة مع او بدون كونديشن ، ام غرفتين ام اربعة؟ ماذا عن ضرورة ادخار مبلغ للحالات الطارئة؟ ما حجم المبلغ الذي يجب ان ندخره للوقاية من غدر الزمان وضمان استمرارية حياتنا الكريمة؟
ماذا عن المرتشين الكبار؟ نسمع احيانا بعضهم يقول "طيب راتب النائب او الوزير ما بكفيه شاي وقهوة ومناسف، كيف بدو يعيش اذا ما ارتشى". اذا، ومرة أخرى، هنالك حد معقول ومقبول في نفس الوقت للرشوات او السرقات الكبيرة في مجتمعنا، لنسمي هذا النوع من الفساد المقبول "الفساد الاوسط". ما مقياس القبول هنا يا ترى؟ إذا اخذنا بمقياس الحياة الكريمة الذي استخدمناه في حالات الفساد الاصغر، كيف نضمن حياة كريمة "مع تيربو" للوزير والنائب. هل نسكنه في قصر من عشرين غرفة وعلى قمة جبل، وندرس ابناءه في هارفارد؟ ماذا عن تنقلاته؟ هل نوفر له طائرة خاصة ام ان المرسيدس "طول عشرة متر" تفي بالغرض؟ "مهو مش معقول وزيرنا او نائبنا يركب سيفيا".
هل هنالك "فساد اكبر" في ثقافتنا، اين وما هو؟ للقارئ ان يطلق العنان لمخيلته للاجابة على هذا السؤال.
ما يجب علينا جميعا معرفته هو انه لا جريمة بدون ضحية. فليس من المعقول ان يأخذ الموظف او الوزير او النائب او الشرطي او موظف الجمارك رشوة ويدعي بانه لا يضر احدا بتصرفه هذا، او يدعي بان هنالك انواع مقبولة من الرشوات. فالرشوة رشوة مهما كان حجمها والفاسد فاسد حتى لو "شَلّف" ساعة عمل واحدة فقط من مكان عمله. وان الفساد بجميع احجامه، الاصغر والاوسط والاكبر، هو الذي اوصلنا الى الوضع الاقتصادي والاجتماعي المزري الذي نحن فيه.
هل نحن من السذاجة بان نعتقد بوجوب وجود عالم مثالي خالي من الفساد تماما؟ لا، ولكن لنا في طريقة معالجة امم الغرب المتقدمة لظاهرة الفساد عندها حكمة وموعظة ، هذه الدول التي نجحت في تحجيم الفساد وتقليصة، ليقطفوا بعملهم ذلك ثمار الازدهار الاقتصادي وضمان كرامة مواطنيها.
على ماذا نحن ثائرون اليوم؟ وما هو الاصلاح الاجتماعي الذي نطالب به؟ هل ثورتنا على الفساد الاكبر ام الاوسط ام الاصغر؟ حري بنا ان نحارب الثلاثة معا ونجتث جذورها جميعا – ألآن، وليس غدا - ولكن بطرق سلمية حضارية. والا سنسفك الدماء ونستبدل حكومات فاسدة بأخرى فاسدة و "تيتي تيتي، مثل ما رحتي اجيتي". يا ترى، هل بيننا من يجرؤ على قطف الموز؟ وماذا عن مضخات المياه؟
بقلم: د. عبدالله اصحاب