زاد الاردن الاخباري -
أمام نافذة أحد الأفران شمالي لبنان، يتزاحم نساء ورجال بوجوه متعرقة ويائسة في طابور الانتظار، ويتدافعون نحو هدف واحد: الحصول على ربطة خبز، أو اثنتين، أو 3 ربطات على الأكثر.
تتقدم إحدى السيدات غير مكترثة باحترام الدور في الطابور، الذي بات مشهدا لبنانيا مألوفا أمام محطات الوقود والصيدليات والأفران، وتصرخ وبيدها 20 ألف ليرة "مستعجلة جدا، بيتي بعيد، أعطني الربطة وخلصني"، ثم تتعالى أصوات الناس على بعضهم بعضا "كلنا مستعجلون"، باحثين عن أي خصم للتشفي من واقعهم المرير.
ويأسف الرجل المسن على هذا الوضع، بعد تجوله منهكا على بعض الأفران، ويقول "وصلت هنا منذ ساعات حتى لا أعود لمنزلي فارغ اليدين، وسأشتري الربطة بضعف سعرها الرسمي من دون رقيب".
هذا المشهد عينة من حالة عامة تسود عددا من المناطق اللبنانية أمام الأفران بسبب شح الخبز العربي، فكانت بعضها ساحة لإشكالات وتضارب بين المواطنين والباعة، في حين تصاعدت ظاهرة بيع الخبز بالسوق السوداء بأضعاف أسعاره، استغلالا لحاجات المواطنين.
يقول نقيب أفران الشمال طارق المير -للجزيرة نت- إن بعض المطاحن الكبيرة تغلق أبوابها، وتمتنع أخرى عن تسليم حصة الطحين كاملة للأفران؛ إذ تصرف ربع الكمية أو نصفها، مما أدى إلى إغلاق نحو 25% من الأفران.
جذور الأزمة
تاريخيا، يستورد لبنان كامل حاجته من القمح سنويا بمعدل نحو 600 ألف طن، أي نحو 50 ألف طن للشهر الواحد، 60% من هذه الواردات تأتي من أوكرانيا، ونحو 20% من روسيا ورومانيا.
وتدعم الحكومة اللبنانية -عبر مصرف لبنان المركزي- استيراد القمح 100% بسعر صرف رسمي للدولار (1507 ليرات)، بعدما ناهز بالسوق السوداء الذي يتحكم بالقيمة الفعلية للعملة نحو 29 ألف ليرة للدولار.
ومع ذلك، يواجه المركزي صعوبات عند فتح اعتمادات لاستيراد القمح، بسبب الشح الكبير بالدولارات لديه، وانخفاض الاحتياط الإلزامي لديه منذ بدء الأزمة (صيف 2019) انخفاضا تدريجيا من 17 مليار إلى نحو 11 مليار دولار، وفق تصريحات سابقة لحاكم المصرف المركزي رياض سلامة.
ومنذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، واجه لبنان أزمة إضافية في توفير حاجاته من استيراد القمح، خصوصا بعدما دمر انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020 الإهراءات (الصوامع) التي كانت تضم نحو 48 مخزنا كبيرا، وتحفظ نحو 85% من قمح لبنان وحبوبه وتوفر حاجة البلاد لنحو 6 أشهر قادمة.
أما في الوقت الراهن، فتتولى المطاحن والأفران مهمة تخزين الحبوب والقمح بعد تفريغها، خارج السلطة المباشرة للدولة ممثلة في وزارة الاقتصاد الوصية على الإهراءات.
تدابير الوزارة
في حديث خاص مع الجزيرة نت، يشرح وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام وجهة النظر الرسمية لأسباب أزمة الرغيف. ويقول إن وزارته تعمل منذ نحو أسبوع على ملاحقة من يصفهم بـ"تجار السوق السوداء" الذين استغلوا الأزمة لبيع الطحين المدعوم والمخصص حصرا للخبز العربي، وذلك لاستخدامه في إنتاج أصناف أخرى غير مدعومة، طمعا في الأرباح، وإن "ملاحقات الوزارة ستستمر بالمطاحن والأفران للقبض على المخالفين".
تاريخيا، يستورد لبنان كامل حاجته من القمح سنويا بمعدل نحو 600 ألف طن، أي نحو 50 ألف طن للشهر الواحد، 60% منها من أوكرانيا، ونحو 20% من روسيا ورومانيا.
ويوضح الوزير أن ثمة كميات جديدة من القمح وصلت أخيرا للبنان، وجرى تفريغ قسم منها، ولا ينفي وجود معوقات لدى فتح المركزي اعتمادات مالية لاستيراد القمح، خصوصا أن لبنان يتكبد شهريا معدل 25 مليون دولار لتغطية نفقاته، علما بأن "هذا المبلغ كنا نرصده مؤخرا من حقوق السحب الخاصة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي والبالغة نحو 1.1 مليار دولار، وليس من احتياطي المركزي".
ويتحدث عن عقد اجتماعات لاتخاذ إجراءات مالية، ولمطالبة المركزي بإعادة قيمة دعم القمح إلى ما كانت عليه، ويُذكّر سلام بأن كمية القمح المستورد انخفضت لنحو 40 ألف طن شهريا، بعد قرار اتخذته الحكومة قبل نحو شهر باقتصار دعم استيراد القمح على إنتاج الخبز العربي، بدون دعم أي منتج آخر كالخبز الإفرنجي ومشتقاته والحلويات، مشيرا إلى مضاعفة الضغط بعد ارتفاع سعر طن القمح عالميا من نحو 350 دولارا إلى 500 دولار.
وبرأي سلام أن أزمة الخبز متعددة الأطراف، فهي نتيجة 4 عوامل يذكرها في ما يلي:
أولا، مشكلة لبنان المالية وعجزه عن دعم الاستيراد بنفس القيمة والكمية، ففي آخر دفعتين "سددنا فقط نصف القيمة المالية لاستيراد القمح شهريا، أي نحو 12 مليون دولار، مما أدى إلى نقص بالكمية".
ثانيا، دمار إهراءات المرفأ جعل لبنان بلا مخزون إستراتيجي من القمح وهي مشكلة كبيرة كرست معادلة "نستهلك كل ما نستورد من القمح آنيا".
ثالثا، ظاهرة تجار الأزمات ضربت القطاع في صميمه، وأصبح الطحين داخليا رهن البيع بالسوق السوداء أو التهريب نحو سوريا.
رابعا، المشكلة التي يجري التغاضي عنها، وفق الوزير، أن اللاجئين السوريين في لبنان، يستهلكون نحو 400 ألف ربطة خبز يوميا. "أي بمعدل 40% أو 50% من القمح الذي يدخل إلى لبنان".
ويرى الوزير أن أزمة الخبز ستشهد حلحلة لاحقا، مع صرف قرض البنك الدولي الذي حصل عليه لبنان بقيمة 150 مليون دولار لدعم استيراد القمح.
وقال "نسعى لحل مشكلة استهلاك اللاجئين للخبز، عبر دعم إضافي خارجي، حتى لا تكون على حساب الشعب اللبناني".
تشابك المسؤوليات
بالتوازي مع ذلك، يرى خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي أن السلطة السياسية لا تتعاطى بجدية مع "المركزي" بملف دعم استيراد القمح وكذلك الأدوية، "لأنها لا تلتزم بالجانب المعنية به لجهة تسديد قيمة الدولار الحقيقي له".
لذا، فإن المسؤولية بأزمة الخبز تقع بالدرجة الأولى -برأي الخبير- على عاتق أطراف استيراد القمح بسعر مدعوم، وهي علاقة محاسبتية بين الحكومة ممثلة في وزارتي المالية والاقتصاد ومصرف لبنان.
ويذكّر الخبير أن الدولة بحالة عجز كبير وإيراداتها لا تغطي نفقتها، وغير قادرة على سداد التزاماتها للمركزي، "مما يعني أن كل حلولها لتوفير أموال الاستيراد جزئية وآنية وغير مستدامة".
وقال -في حديثه للجزيرة نت- إن مشكلة القمح تتجاوز مسألة دعمه إلى مسألة توفره من الدول التي يستورد منها، وارتفاع أسعاره عالميا بما يفوق قدرة لبنان المنهار على تحمله.
من جانبها، تجد الصحفية المتخصصة بالشأن الاقتصادي، عزة الحاج حسن، أن كلام وزير الاقتصاد يؤكد نظرية افتعال الأزمة، وأن الكفاية من القمح لا تعني كفاية بإنتاج الخبز، مما يؤدي لعدم وصول الكميات المعتادة من الطحين إلى المخابز والأفران.
وقالت -للجزيرة نت- إن ظاهرة السوق السوداء للخبز تنذر بمخاطر كبيرة، إذ وصل سعر الربطة ببعض الأفران إلى 25 ألف ليرة في حين لا تتجاوز رسميا 15 ألف ليرة بأعلى وزن.
وزير الاقتصاد اللبناني: ظاهرة تجار الأزمات ضربت القطاع في صميمه، وأصبح الطحين داخليا رهن البيع بالسوق السوداء أو التهريب نحو سوريا.
وتحدثت عن ظاهرة جديدة تتمثل في "امتهان بعض الأفراد شراء الخبز بكميات كبيرة من أفران متفرقة، وبيعها بالأحياء الشعبية على البسطات بأضعاف سعرها".
لذا، عمدت بعض الأفران -وفق الصحفية- "إلى طلب هويات من يشترون الخبز، وخصوصا اللاجئين السوريين، وأصبحت تقنن وتسمح ببيع ربطتين لكل فرد فقط".
وإذا كان مستوردو القمح يرفضون تسليم الطحين للأفران، وفق الحاج حسن، فإنهم يرمون المسؤولية على المركزي، إذ بين إجراءات الموافقة على فتح اعتمادات لدعم استيراد شحنات القمح وتحويل الأموال، ثمة وقت يمتد لأسبوعين أحيانا، ويمتنعون خلالها عن تسليم الطحين بسعر مدعوم كنوع من التحدي والضغط على الحكومة والمركزي.
وترى الصحفية أن على وزارة الاقتصاد مسؤولية كبيرة للقضاء على السوق السوداء للخبز، لأنها "تعرف أصحابها، والمطلوب مداهمتها بمؤازرة القوى الأمنية للمستودعات وإلزام المستوردين والتجار تسليم الطحين للأفران، قبل الذهاب للنيابة العامة المالية ومحاسبتهم"، مشيرة إلى أن المسار القضائي اللبناني طويل بسبب التدخلات السياسية، وأن قطاع القمح مرهون للمحسوبيات الحزبية والطائفية كسائر القطاعات.
وتعتقد أن معظم التجار يريدون بيع مختلف المنتجات التي يدخل الطحين في إعدادها، بما فيها الخبز العربي، بسعر مرتفع غير مدعوم لجني الأرباح، وتصفه بالهدف غير الأخلاقي بحق المواطنين بعدما صار نحو 80% منهم فقراء.
وتتوقع عزة الحاج حسن استمرار أزمة الخبز أو صعودها بين فترة وأخرى، لأن مشاكل المستوردين مع المركزي لدى فتح الاعتمادات ما زالت قائمة، "مما يعني تفاقم الضغوط والابتزازات على حساب حق الناس بالحصول على ربطة خبز بسعر مدعوم".