الفاسدون ماليا وأخلاقيا ، هم الأقل قدرة على مقاومة الضغوط ورفض الابتزاز والثبات على المواقف والقبض على جمر المبادئ والحقوق ، هؤلاء بيوتهم من زجاج ، هؤلاء يصعب تحميلهم أمانة المسؤولية في القضايا الصغرى ، فما بالك حين يتصل الأمر بالقضايا الكبرى ، ما بالك حين يكون "الطرف الآخر" في معادلة الضغط والابتزاز ، هو الاحتلال الإسرائيلي الفاقد لكل قواعد الشرعية والأخلاق ، والذي لا يرى في غير الفلسطيني الميت ، من يمكن أن يحظى بلقب "الفلسطيني الجيد".
الفساد مكلف ماديا وأخلاقيا ، تدفع ثمنه الدول والمجتمعات من كيسها ، بيد أنه في الحالة الفلسطينية أعلى كلفة ، كونه يعد مدخلا لتبديد الحقوق والتفريط بالمكتسبات ، ويشكل كونه "كوة" في جدار صمود الشعب ومقاومته ، ويفتح ثغرة يتسلل منها العدو إلى قلب الحركة الوطنية الفلسطينية... وما أثير من أسئلة وتساؤلات على هامش فضيحة "فتح غيت" وفقا لتعبير القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي ، يكفي لتوضيح ما نقول.
كم من مسؤول فلسطيني ، من وزن رئيس ديوان الرئاسة ، أكبر قليلا أو أصغر قليلا ، تعرض لما تعرض رفيق الحسيني؟.. كم من واحد منهم استحق مصيرا مماثلا ، وكم واحد منهم يمكن إدراجة في عداد "ضحايا" وصراع الضواري على السلطة والمال ، وفساد أدوات المنافسة السياسية أخلاقيا وقيميا؟ هل الأجهزة الفلسطينية وحدها من تمتلك مثل هذا "المستمسكات" و"المضبوطات" ، أم أن لإسرائيل أراشيفها الكاملة في هذا المضمار ، كيف تستخدم الأجهزة الفلسطينية ما بحوزتها من بيانات.. وكيف - وهذا هو الأهم - تستخدم إسرائيل أراشيفها القذرة؟ كيف يؤثر كل هذا وذاك وتلك ، على مواقف النخب المتنفذة في السلطة والمنظمة ، طالما أن الحديث يدور عن طيف واسع من الفاسدين والساقطين ، وفقا لضابط المخابرات السابق المحامي فهمي شبانة ، وهل يمكن أن تكون هناك صلة من نوع ما ، بين تراخي هؤلاء سياسيا ، وتهافتهم نحو خيار "المفاوضات حياة" وحرصهم على "التنسيق الأمني" وحمايتهم له بحدقات العيون من جهة ، وما قيل ويشاع عن وجود ملفات شبيهة بملف القناة العاشرة من جهة ثانية.
هل يمكن لمسؤول متهتك ، فاسد ومنحل ، أن يكون صلبا في ميادين المواجهة السياسية والأمنية والكفاحية ، أليست أخلاقيات الشخص وتربيته ونظرته لنفسه ، جزءا لا يتجزأ من منظومة "المناعة المكتسبة" التي إن اكتسبها الشخص ، ذكرا كان أم أنثى ، صلب عوده و"عرُضت" أكتافه ، وبات قادرا على حمل الأعباء والمسؤوليات ، وأن أصيب بـ"نقص" فيها ، انهار عند أول مواجهة ، بل وربما انتقل لخدمة خصومه وخصوم قضيته.
السلطة استنفرت في الهجوم على شبانة واتهمته بالخيانة ، ونحن لا نعرف حقيقةً مدى صحة هذه الاتهامات من عدمها.. والسلطة حملت على إسرائيل ونواياها وأهداف الحملة على الرئيس عباس ، وهنا نصدق كل كلمة قالتها السلطة ، ليس لثقة بخطابها أو روايتها ، بل لإيمان عميق ، بأن إسرائيل تفعل ذلك ، وتفعله باستمرار ودائما.
بيد أن السلطة لم تجب عن الإسئلة الرئيسة ، وبطريقة مقنعة لنا نحن الذي تابعنا بكل دقة دقائق تقرير القناة العاشرة: أين الحقيقة وأين التزوير والكذب فيما أورده فهمي شبانه ، إذ لا يعقل أن يكون كل ما أورده صحيحا أو أن يكون كل ما ورد على لسانه كذبا وتلفيقا؟.. لقد رأينا شريطا مسجلا عرفنا صوت وصورة صاحبه ، لماذا لا يرسل إلى جهة اختصاص فنية محايدة ، لتعطي تقييمها الفني عمّا إذا كان الشريط حقيقيا أم كاذبا؟.. شبانة اعترف بأن جهاز المخابرات تجسس على كبار المسؤولين الفلسطينيين بهدف إسقاطهم ، وهذا ما كشفت عنه الوثائق التي استولت عليها حماس في غزة بعد "الحسم ـ الانقلاب" ، ما صحة هذه المعلومة ، ومن المسؤول ، ومن أعطى الإذن ، ولماذا لا تجري محاسبة هؤلاء ، وكيف يكافأون على أفعالهم النكراء تلك؟.
بدل القفز للأمام ، وكيل الاتهامات وتسييس المسألة ، كان يتعين على السلطة - ولا يزال - أن تشكل لجنة تحقيق مستقلة ، من شخصيات محترمة ومستقلة ، تعطى الصلاحيات الكاملة ، لتخرج ببيان للناس ، وبسلسلة من التوصيات ، تنتهي إلى محاسبة المسيء والفاسد والعميل ، وتغلق هذا الملف بالطريقة الوحيدة الملائمة لإغلاقه.. لجنة تحقيق ليست على شاكلة ما سبقها من لجان ، ولا نحتاج بعد تشكيلها للمطالبة بإجراء "تحقيق" في ملابسات اندثارها وانتهاء أعمالها إلى "المجهول".
أما "هوبرة" الاتهامات ، و"رطانة" الشعارات السياسية (الفوق وطنية) ، فلم تعد تقدم أو تؤخر ، بل وستضيف مزيدا من الشكوك على رواية السلطة ، وتعطي مصداقية أكبر لوثائق شبانة و"مستمسكاته".