بقلم الدكتور المهندس أحمد الحسبان - أحياناً نبحث عن الهاتف الخلوي وهو في أيدينا؛ وقد نقلب البيت رأسأ على عقب بحثاً عن مفتاح سيارة او باب وهو امام ناظرينا على الطاولة التي أمامنا، وتتطور الامور في غياب البصر ان ندخل إحدى غرف البيت سهواً، ثم نصحو من سهوتنا، ويخاطب المرء نفسه لماذا دخلت هذه الغرفة وانا اريد المطبخ، واحيانا نلبس بالمعكوس، او نتوضأ مرتين لذات الصلاة، او نسهو فتجرح السكين اصبعا بدل تقطيع الخضروات وهي امام أعيننا، كل هذا قد يحدث او حدث كثيراً.
تتكرر مثل هذه الظواهر داخل البيت وخارجه، فقد نسوق بالسيارة وندهس قطا او نصطدم احدا دون قصد مع اننا نطبق قاعدة السواقة نظرتين للامام ونظرة للخلف، وبعض الاغنياء مثلاً يرون الفقر والفقراء في شوارع مدينتهم بأعينهم، لكنهم لا يلقون بالاً لذلك، وبعض المارة بالطريق يسمعون الآذان ويرون المسجد ولا يدخلونه، والظالم اللئيم يرى المظلوم يتألم جراء ظلمه ولكنه يستمر بذلك بل ويستمتع، حتى المغتاب اعتاد العمى فيسهب بغيبته لغيره مع انه يتحدث عن اشخاص غير موجودين أمامه. وفي كل تلك الحالات وغيرها اثبات ان البصر غير النظر، وان العين ليست عضو البصر الحقيقي الصادق، بل هناك غيرها الذي يبصر، وهو فعلياً القلب الذي يعي ويعقل ثم يبصر الحق والحقيقة، وعيونه هي العيون الحقيقية. قال تعالى الذي صنع الانسان وهو أعلم بوظائف اعضاءه الحسية :(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). الحج/٤٦.
كنا ذات مرة في محاضرة لأحد اساتذة الجامعة الهنغاريين، يتحدث فيها عن أحد مواضيع الدراسة الهندسية في برنامج الدكتوراة؛ فسألنا سؤالا سارعنا لأجابته بكل بساطة وسذاجة وكأننا طلاب مدرسة يحفظون درسهم بعدما حضروه قبلها بيوم، مزهوين بمعرفتنا التي تبين لاحقا انها سطحية، فابتسم وقال؛ اجابة صحيحة، ولكن ليست لطالب دكتوراة، انظروا للمسألة (look at)، وكان يقصد نظرة بحثية لا دراسية، وعودوا بإجابة مختلفة بالمرة القادمة، وعندما عدنا كانت الاجابات فعلا ذات ابعاد واعماق مختلفة، وقال وقتها - وهو ليس مسلماً - انظروا للمسائل والمشاكل الهندسية بعقولكم وليس بأبصاركم. فتعجبت منه وقتئذٍ؛ وقلت في نفسي: من علمه هذا وهو لم يقرأ القرآن الكريم! وكيف لم نعلمه نحن هذا ونحن من قرأنا القرآن مرات ومرات، ولكن للأسف حتى قرائتنا للقرآن الكريم كانت بالابصار - لا بالقلوب أو بالعقول.
خلاصة القول؛ عيون القلب أحدُّ بصراً من عيون الرأس، فهي ترى ما لا تراه تلك، ترى ما خفي من الحقائق ما لا تستطيع عيون الاحداق ان تراه، وربما لن تستطيع ان تراه الا قبل مغادرتها للدنيا، حين يكشف غطاء البصر ويمسي وقتها حديد، ولكن لا عودة بعد تلك النظرة الحديدية لتصويب ما فات، استخدام عيون القلب لمعرفة ماهية الامور والتفكر بها هو البديل، بل هو الاصل في وقت يعيش فيه الكثير من العميان وقساة القلوب - وهماً قاتلاً.
من مقالات - الاوهام تقتل.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان