تستفيق الغيمة ، من غيابها ، وتأتي مُحمّلة بالندى في شباط ، وبلونها الاخضر ، كزيتونة لا شرقية ولا غربية ، وتنثر سنابل القمح الذهبية ، في الصباح ، وتأتيك "ساجدة" من غامض الغيب والغيم ، على حد سواء ، تمد يدها الناعمة كلؤلؤة ، الى وجهي ، تعبث فيما تبقى فيه من حياة ، تزرع فيه النخل ، الذي لا ينحني ، تهزه ، بيمينها ، فيتساقط ، عليّ الرضا والصبر.
الثاني عشر من شباط ، ثلاث سنوات ، مرت ياساجدة ، بعد الرحيل ، ذات شتاء ، الدحنون الاحمر من دمك يا ساجدة ، حول بيتي ، ما اشبهك بالدحنون ، لان فيك منه النعومة واللون الاحمر ، وطراوة العنق وسرعة الرحيل. الدحنون ورد الاعراف. ما بين فصلي الشتاء والربيع يتجلى دون قرار من احد. انت ايضا ابنتي التي رحلت في موسم الدحنون ، نثرت روحها الذهبية على الارض ، فاستنبت الدمع دحنونا في كل مكان ، الاف الدمعات ، أمسين دحنونا احمر ، لتقول لي المُلقبة في مدرستها بأم عائشة بأنها ما زالت عائشة ، على الرغم من الرحيل.
وُلدت في الشتاء ورحلت في الشتاء وتأتي ذكراها في الشتاء. اراها تقود الغيم بيدها. تُرسله الى قلبي. لاطفاء نار الصحراء التي لا تهدأ. لاطفاء الرمد المُشتعل في رأسي وعيني ، ايضا. اصعب ما في هذه الدنيا ان تنسى من تحُب. هل ينسى الانسان من يحُب. نعمة النسيان التي يُحّدثك عنها البعض ليست نعمة ، للنسيان وجه اخر. ومعنى اخر في بطن المعنى. فالنسيان يعني ايضا النكران والجحود وخلع الورد من حديقتك بيدك ، الورد لا يموت ان اسقيته وقبلته على جبينه. الدحنون يغيب طول عام ، لكنه ما يلبث الا ان يخرج مثل اسطورة لا يثبت انها اسطورة. الدحنون حقيقة لا تنثني ، وقلب ابنتي ما زال حيا.
لكلّ من اسمه نصيب. كانت طفلة ربانية نورانية. على الرغم من مرضها المُنهك والمُتعب الذي عانت منه احد عشر عاما ، كانت ربانية القلب. تصوم وتصلي. لا.. اجمل عليها من لباس الصلاة الابيض. متُعتها الاكثر في حياتها. كانت اقناعي ان نجلس سويا عصر الجمعة ، كل جمعة لنصلي ونسلم على النبي صلى الله عليه وسلم معا. نقرأ نصا طويلا. وجهها كان مثل شمس تحل عليه شمس اخرى ، حين تُصلي وتُسلم على النبي. يضيء فأعرف انها ليست بنتا ارضية. اصعب الساعات كانت في الالم الذي تشربه جراء مرضها وجراء نظرة طفل اخر او طفلة اليها ، من لا يفهما معنى المرض ، فينظران اليها على جمالها باستغراب. اي قسوة تلك نزرعها في قلوب اولادنا وفي تربيتهم ، عبر ثقافة فتح العيون على الاخر ، وسلب مُفردة الاحساس والتضامن مع الاخر بلطف وأدب. كانت تحتمل كل ذلك بصبر غريب ، واكتوي انا. اكتوي بجمر الدنيا ، قهرا لاجلها.
كنت اسكن في بيت وسط غابة شجرية جميلة. في الطابق الاول. ودرج طويل يمتد الى ثلاثين درجة نزولا الى البيت. كنت اعيدها كل يوم من المدرسة. احيانا تكون مُتعبة. فلا تقدر ان تنزل عبر الدرج الطويل ، مشيا ، اجلس الى الدرجة الاولى. احملها على ظهري. تحيط بيديها عُنقي ، وانزل الدرج بها مئات المرات. هل هذا حمل ثقيل يا رباه. لا وحقك. ما اخفه على قلبي. كل الهموم والاحمال الاخرى في الحياة تغيب ولا قيمة لها ، امام لمعة عينيها حين تتألم وحين تضحك. حتى اليوم لا قيمة لشيء في عيّني. لا يُثيرني منصب ولا سيارة ولا بيت ولا مسؤول ، ولا جاه ولا لمعة. كل هذا لا قيمة له. بعضهم يقول نعرف سر "المغامر" في قلبك. سر الذي لا يخاف من احد ، ولا يحسب حسابا لاحد. من يفقد ابنته ، لا يخشى بعد ذلك ان يفقد احدا ، ولا يحسب حسابا لاحد في هذه الدنيا. هذا انا. اورثتني نعمة عدم الخوف من احد.
وجهها السماوي يستمطر الغيث ، حين يغيب ، يستسقي الرضا لي ولغيري ، ليست مجرد طفلة عابرة. في يمينها الغيم ، وفي يسراها البرق والرعد ، وحين تأتي.. يأتي المطر.
سلام عليك.. اللهم اسقها سُقيا رضى من يد محمد صلى الله عليه وسلم ، لا تظمأ بعدها ابدا.
mtair@addustour.com.jo