ثمة من يواصلون الحنين للماضي متذرعين بأنه كان أجمل وأنقى وأكثر بساطة وعفوية، تجدهم في المناسبات الاجتماعية يستذكرون جماليات ما فات ويضفون عليه صفات تكاد تصل إلى درجة القداسة والطهارة الخالصة. كأنهم يتكررون ضمن ما يدعى بفجوة الأجيال، الفجوة التي تبقي نوعاً من الاختلاف والتمايز بين جيل وجيل، لكنها تتفق على مفردة واحدة تتمثل بأن الجيل الأقدم كان الأفضل.
لو نظرنا بصورةٍ محايدةٍ لتلك الفروق وذاك الواقع الاجتماعي لجيلٍ سابقٍ عن جيل لاحقٍ فماذا يمكن لنا معاينته؟ الحقيقة التي قد تكون صادمة أن العالم في حالة من السيرورة والتقدّم، بحيث يصح القول أن الأفضل هو الأحدث ضمن جملة المعايير المتبعة.
أتذكر أحد الأشخاص عندما قال بأن والده العجوز التسعيني تنهد في حسرةٍ موجهاً حديثه لإبنه: أغرف من الحياة قدر ما تستطيع، ما يتوفر لكم الآن لم يكن يخطر لنا في الأحلام، كنا نسير بلا أحذية من قريةٍ إلى قريةٍ أخرى، كانت الناس تموت دون أن نعرف سبباً لذلك لأنه لا يوجد طبابة ولا تشخيص ولا علاج، كانت الحلويات المتاحة والطعام المتوفر من أبسط ما يكون، لم نكن نعرف معنى شراء الملابس والموضة وتسريح الشعر والعطورن لم نعرف معنى شوارع وطرقات معبّدة وأرصفة وإشارات مرور، لم نعرف معنى التكييف الهوائي، كانت الدنيا كلها تتمركز في ساحة القرية حيث بداية ونهاية العالم لنا.
في جيلٍ ما كان محمد عبد الوهاب يعتبر محدثاً وطارئاً في مجال الأغنية، بل كانت أم كلثوم في نظر منيرة المهدية خارجة عن النسق والمألوف، كان عبد الحليم شيئاً غير مسبوق في اقتحام المعتاد بغير المعتاد. أما هاني شاكر فهذا كان في جيلٍ ما مثار تندّر وريبة مما يقدمه، إلى أن اصبح شعبولا يقدّم على أنه فنان ملتزم مقابل الصاعدين بعده، وصولاً إلى بيكا وشطّة وكهربا الذين جعلوا هاني شاكر يقدّم استقالته من نقابة الموسيقيين رفضاً لنهجهم الفنّي.
كذلك الحال في الحنين للمعلم في الماضي، للموظف، للتاجر، للجار، للصديق، للعشيق، للحارة، للقرية، فهؤلاء يتم تصويرهم بأنهم كانوا مثالاً في منظومة القيم التي يحملونها ويمارسون سلوكاتهم ضمن محدداتها.
في جيلٍ ما كانت ليلى مراد وأنور وجدي محدثان في التمثيل بشكلٍ غير مقبول حينها، وكان رشدي أباظة بمثابة شخص مبتدع في التمثيل، وصولاً إلى رمضان الذي أعاد صياغة وهدم الكثير من مسلمات التمثيل.
في جيلٍ ما كانت تحية كاريوكا وسامية جمال تعتبران من المحدثات في الرقص الشرقي وأنهن يعملن على هدم المتعارف عليه في حينه، كذلك الحال مع نجوى فؤاد، وفيفي عبده ليتواصل الحديث والحنين للماضي بأنه الأجمل والأفضل.
إن الزمن هو الزمن، والتغيّر يحدث للبشر مع تغيّر الأدوات والوسائل والنهج، لكن الحقيقة الراسخة أن التقدّم هو سمة الزمن، وأن الجمال شيء نسبي يضفيه البشر على المكان والزمان والمواقف والأشياء.
وصدق من قال: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم.