بعد غد عيد الحب.. وهو يوم سيكونُ شاقاً، لعامل في محل بيع الورود على شارع عام؛ شابٌ في منتصف العشرين منذ سنوات تخلت عنه الحياة، وزرعتْ شبابه في سيارة "دليفري" صغيرة تستوعبه، وضمة ورد مختارة ألوانها بعناية لمناسبات لم تناسبه يوما!
لكنه دائما في طريقه إلى المُرسل إليه، يُحاولُ نسج حكاية حب؛ فالطريق دائماً مزدحمة وتحتاجُ إلى حديث يختصرها. يتذكر قبل قليل حين دخل المرسلُ إلى المحل، وقال للبائع بعد أنْ مسح جبينه المعروق:"أريدُ ورداً للمدام"! يسأله البائع عن المناسبة، فيضطرُّ المرسل أن يمسح جبينه من جديد قبل أن يقول بصوت مكسور:"مصالحة"!
لم يعرف ساعي الورد خصاماً شديد التعقيد، بين والديه انتهى بأنْ يطرقَ شاب في منتصف العشرين مثله، بابَ بيتهم، فيسأله عن "المدام"، ولا يدري أن المقصود أمه، فيدله على جيران جدد، يعتقد أن لديهم امرأة تحمل ذلك الاسم الغريب!
ما كان يعرفه قبل أن توكل إليه مهمة قيادة السيارة الصغيرة في كلِّ شوارع عمّان، أنَّ الخصام بين الأزواج، على غرار والديه وزيجات العائلة الممتدة، ينتهي بتصالح غير معلن على وجبة عشاء دسمة، مغالية في الطعم الحار، يعقبها نومٌ مبكر يضطرُّ الأبناءُ لافتعاله؛ تهيئة لعودة المياه إلى مجاريها! وجد في كلِّ مناسبة حمل لأجلها الورد، من مرسِل إلى مرسَل إليه، مرادفاً في حياته وما حولها من حيوات؛ فالزوجة التي جاءت تبتاعُ ورداً أبيض؛ لتهنئ زوجها لنجاته من حادث السير، ذكرته بمبالغة أمه في الندب على إصابة عمل لوالده، اضطرته للجلوس أسبوعين في المنزل، كان آخرهما يشهدُ سجالاً حاداً حين يطلب كوب ماء!
.. تذكرَ أشياء كثيرة أخرى، وعقد مقارنات عديدة، جعلته على يقين، أنه كان ينبغي على أمه وأبيه، وباقي زيجات العائلة الممتدة، أن يزرعوا حوض "فلين" واحد من الورد، مقابل أحواض الخضار الموسمية، ليتأكد أنّ الحياة أكثر مرونة من عضلة المعدة!
ولم يزرع أهله حوض "فلين" بالورد، فعمل بداية، منساقا لإرثه العائلي، سائق "دليفري" لأنواع متعددة من المطاعم، حتى استقرَّ في محل الورود قبل أشهر. وكان ذلك حلاً لمأزق إغلاق آخر مطعم عمل لديه!
ومنذ اليوم الأول له، وهو يتحضرُ لـ"موسم" هذا النوع من المحال، ويعرفُ أنَّ "الفالنتاين" يعوِّض ركود سوق الورد، حين لا يكون هناك تعديل وزاري، وعندما يحصنُ الناسُ أنفسهم، بالوقاية قبل العلاج، ويطيعُ الرجالُ زوجاتهم، ويفرطُ منْ هم في سن المراهقة، المتقدمة أو المتأخرة، بالإحساس الغريب، أنهم مثل "العاشق بلا حبيب"!
راحَ خياله يسرح فيما يُمكنُ أنْ يفعله بعد غد؛ غير أن يضعَ أغنيات فرح كاذب، تذكره أنه نشازعلى سياق ذلك اليوم. سيحملُ ورداً جورياً، إلى نساء أنيقات عاملات في المصارف وشركات من طابقين فأكثر، وإلى فتيات مرتبكات الحسن، في مكاتب تبالغ في خدمة العملاء، وإلى معلمات صف، وعاملات في مصانع "العلكة" و"الشيبس"..؛ يُرسلها في الغالب عشاق عاطلون عن العمل!!
سيكون يوماً مدهشاً، لم يألفه من قبل، وسيحملُ بين ساعاته حادثة نادرة سيذكرها طويلاً، فقد تأتي امرأة متأنقة وتطلب باقة حمراء غالية الثمن، وتكتب العنوان وفق الأصول، ورقم هاتفها عند الضرورة، لكنها تعطي اسما واحداً للمرسِل والمرسَل إليه؛ فيفهمُ الساعي غرضها أو مأزقها، ويقرِّرُ التواطؤ!
يذهبُ مزهوّاً بضربة حظ، تجعله عاشقاً للمرأة الوحيدة؛ لكنه لا يجدها، وحين يُهاتفها تجيبه ضاحكة:"جاءني ورد صادق"، تضحك أكثر:"خذها لحبيبتك"!
وسيحفظ الباقة الحمراء، حتى تأتي حبيبته..، في حوض "فلين"!