أول من أمس في لقاء مع كتاب صحافيين كان الناطق باسم الحكومة د. نبيل الشريف يبحث عن أقسى التعابير لوصف الوضع القائم، الوضع مقلق، بل مقلق جدا، الوضع صعب، الوضع خطير، لا يمكن الاستمرار بالأساليب القديمة.
وهكذا كما لو أن هناك رسالة حاسمة يجب إيصالها. ومن عادة الحكومات أن تبعث للمواطنين رسائل تطمين وأحيانا تهوين من وقع الأزمة وتبعاتها، واذ يحدث العكس فمن المؤكد ان لدى الحكومة من القرارات والاجراءات غير الشعبية ما يحتاج الى تهيئة غير عادية لجهة إشعار المواطن بحجم المشكلة، وقد أعطى الناطق باسم الحكومة أمثلة في العجز"غير المسبوق" للموازنة والحجم "غير المسبوق" للمديونية.
لم نقع في الأزمة الاقتصادية الشهيرة، التي عصفت بالعالم خلال السنة الماضية، وحتّى الآن ليس لدينا شيء من مظاهر تلك الأزمة. لم يحدث انهيار في المؤسسات ومرافق الاقتصاد، لم يعلن افلاس اي بنك أو مؤسسة مالية أو شركة، لم تغلق مصانع ولم تقفز ارقام البطالة والإعانات، ولم يفقد مواطنون منازلهم، ولم تتبدد ثروات في طرفة عين، حتّى الشركات العقارية التي تمركزت عندها الصعوبات تعلن أنها تعاني فقط من أزمة تمويل؛ فالبنوك لا تقدم لها التسهيلات المطلوبة كما في السابق، مع ذلك تقول الحكومة أن الوضع خطير، فما هو الخطر من دون أزمة اقتصادية؟!
الخطر هو وضع المالية العامّة. اي مالية الحكومة فهي انفقت باطراد سنة وراء سنة أكثر مما يجب حتى تضخمت المديونية الى مستويات لم تعد مقبولة، وفي المقابل انخفضت الايرادات مقابل الزيادة في الموازنة بحيث اصبح العجز فوق الحدود الممكنة.
والآن على الحكومة ان تتدبر الموقف في ظلّ انخفاض المساعدات المنتظرة واقعيا، وليس هناك من وسيلة طبعا سوى زيادة الضرائب وتخفيض الدعم والاعفاءات وخفض الإنفاق الحكومي وتقليص فرص التوظيف وإلغاء مشاريع تنعش السوق، وهو ما سيقود على العموم إلى المساهمة في التباطؤ الاقتصادي، وتراجع مستوى معيشة المواطنين.
ما الذي أخطأنا به وصحونا عليه الآن؟! هل كان بذخا حكوميا وفسادا في الإنفاق! أم اقتراضا لدعم نمو يفترض أن يعود على الموازنة بما تسدد به الديون؟! أم سياسة حكومات قصيرة العمر تتجنب اتخاذ القرارات الصعبة في وقتها وفق ما تتحدث به الحكومة الآن من انها لن تقبل تأجيل القرارت الصحيحة والصعبة لحسابات الشعبية.
قد يكون خليطا من كل هذا. والمهم ان لدى الحكومة صراحة أخبارا سيئة لنا، فهي ستتخذ القرارات الصعبة، وهي بالطبع مزيد من ارتفاع في الاسعار والضرائب. وليس لدى المواطن ما يحاجج به أو يقترحه سوى أن تضيّق الحكومة على نفسها ورواتبها وامتيازاتها، بدلا من ان تسرح عمال المياومة في الزراعة.
هذه على كل حال قصّة قديمة مكررة، فكم هو حجم التقليص أو التقشف الممكن لو حصل؟ بضعة ملايين مقابل عجز ينوف على البليون؟! لعلّ الشفافية في توضيح كل مجالات الإنفاق تساعد الحكومة في قضيتها مع الرأي العام، وقصّة الرواتب والامتيازات تستحق وقفة أخرى.