من أكثر المجالات التي تتعرض للاختراق والانتهاك الفاضح ربما يكون المجال السياسي الذي يخوض فيه كل من هب ودب، دون قيود أو حدود ودون احترازات قانونية أو أدبية، فقد أصبح المجال السياسي سماءً مفتوحةً لأصحاب الهوايات ولكل من يجد عنده بعض الفراغ بعد انتهاء عمله، والسمة الأكثر وضوحاً في هذا المجال أنّ جميع الخائضين في السياسة على قدر المساواة دون مراتب أو درجات، لا أفضلية لشهادة أو خبرة أو ممارسة أو تخصص.
والحقيقة أنّ السياسة من أكثر المجالات التي تحتاج إلى الفهم الدقيق والعمل المتأنّي، وسعة الصدر وطول النظر، وعمق التحليل، والتحقق من المعلومة، واتباع المنهج العلمي في اجتراج البدائل ودراسة البيانات وفحص الفرضيات، ولذلك فقد اقترنت السياسة بالذكاء والدهاء والموهبة والفراسة والبصيرة والخبرة وطول التجربة وسعة الثقافة والإطلاّع ومجالسة الحكماء والخبراء وأصحاب السابقة وأهل التاريخ.
مصيبتنا في هذه الأيام أنّّ مصطلح السياسة تعرض لعملية تشويه وتخريب طويلة ومرة، ولم تعد السياسة تقوم على حسن الإدارة وحسن التدبير بقدر ما أصبحت تقوم على الخداع والتضليل وقلب المعلومات وتكرار الكذب ومداومة الضحك على الذقون من جميع الأطراف، وأصبح الاستعراض واللعب البهلواني هو المتألّق الذي يحظى بالإعجاب والفتنة والتصفيق الحار والوقوف احتراماً وتقديراً.
السياسة تحتاج إلى هدوء ورباطة جأش، وتشغيل للعقل ولجم لنزوات العواطف وتهدئة للانفعالات، وبعد عن الأضواء وهرج المسارح وصيحات الدهماء، من أجل تهيئة البيئة لدراسة علمية موضوعية متأنية، تتحمل الألم، ولا تتشوق لعبارات المديح والثناء العاجل الذي يورث الندم الطويل وضياع الهدف ويورث الخسران الذي لا يقدر بثمن ولا ينفع معه اللوم.
من أكثر مصائب السياسة ظهور أصحاب الصوت المرتفع الذين أدركوا نقاط ضعف الجماهير، فلعبوا على أوتار الإثارة والانفعال للحصول على لذة عابرة تنتهي كلمح البصر، وتبقى حسرة ضياع الهدف وفقدان الطريق وخسارة المستقبل.
إنّ العمل السياسي الحقيقي المثمر عمل مضني وممل، يقوم على حرارة العقل وبرودة القلب والعاطفة، بعيداً عن الأضواء وصرخات المعجبين وبعيداً عن أساليب الاستعراض والنجومية، والقفز على الحبال ومتابعة نظرات الإعجاب والتلويح بالأذرع والأيدي.
العمل السياسي يقوم على الدقة في اختيار الهدف، والدقة في رسم خطوات العمل والدقة في رسم ملامح البرنامج الواضح البعيد عن الشعارات العامة والفضفاضة التي تدغدغ عواطف السذج وترضي مشاعر البسطاء.
السياسة ليست خطبة رنّانة في جمع ملتهب، وليست قصيدة تلهب مشاعر العاشقين، وتذوب أكباد العذارى والسهارى، وليست مكنة في تنميق الكلمات وجمع المترادفات، وليست مكنة على جلب الآهات والصيحات.
السياسة فن خفيّ وعمل دؤوب، ومهارة في استكشاف الواقع وقدرة على سبر أغوار الحوادث واستنباط العلل، وفن في معرفة الرّجال والتعرف على العقول الراجحة، وإدارك لعلم الإشارة ووقوف على خفايا الأمور، وكشف الزوايا المعتمة من أجل تشكيل رؤية صحيحة، شاملة ودقيقة وبعيدة الأفق، تمتاز بالذكاء والفطنة وحسن التقدير.
السياسة إدراك عميق لموازين القوى، وإدراك صحيح لمواقع الأطراف وحجومها وأوزانها وإثارة، وقدرة فذة على كيفية التعامل مع كل منها.
السياسة قدرة على دراسة الحوادث وفهم الدروس وحسن العظة وتراكم التجربة وقوة وجرأة في اتخاذ الموقف والقرار بعد مشاورة وحسن استماع وطول حوار.
rohileghrb@yahoo.com