بقلمي؛ - ما أصعب ان نربي ابناءنا على الصدق في البيوت، وعندما يخرجون للحياة يجدونها تعج بالكذب، بكل أطيافه، وأنواعه وأشكاله وأحجامه ومجالاته، استغرب كيف سيواجهون هذا الكذب العارم بذلك الصدق الأعزل القليل، من المؤكد أنهم سينصدمون نفسياً، وسيصتدمون بعشرات الحيطان والحنوت في دروبهم، وربما سنلام لوماً شديدا على تلك التربية، لأنها لم تكن لتلائم زمانهم الخداع هذا، كل الشكر والتقدير لمن اقترح تدريس مادة الفلسفة لابناءنا لعام ٢٠٢٤ / ٢٠٢٥، لقد اراحنا من حمل ثقيل، لعلهم يجدون فيها ضالتهم من التواء الكلمات والحروف لتناسب حياتهم المستقبلية، لأنها حتما لن تكون كتلك الفلسفة الصادقة التي درسناها مذ كنا شبابا.
لن أصف الكذب بهذا الزمن، فهو أوضح من أن يُعرّف او يوصف، ولن افضح أصحابه او ادل عليهم، فهم كثير معروف، وعلى كل المستويات، ولكني اود ان اكذب واقول ان نسبة الكذب في هذا المجتمع قد تصل ال ٩ من كل ١٠، الصادق نادر جدا بل أعزل ووحيد، وقد يكون صادقا مع نفسه ولنفسه فقط، وليس مع الناس او حتى في خلوته مع الله، هؤلاء ال ١٠ بالمئة الصادقون - على الاكثر - غالباً ما يكونون في طريقهم للعزلة الاجبارية، او الرحيل عن الدنيا قهراً، وبالتالي فالصدمة الكبرى ان جميع من تبقى في الساحات هم الكذابون فقط. لقد حاولت مرارا ان استخلص لنفسي بعضا من الصادقين، وبحثت كثيرا عنهم في عزلاتهم ومخابئهم، فأبوا الا البقاء فيها، فتبوأت لنفسي مقعدا بين من تبقى منهم صامدا يعاني، اذ لا حدّ الهي يردع الكاذب، ولا قانون وضعي يتابعه، الا خالص توبة ذاتية.
لقد تعلم جيلنا المسكين - جيل السبعينيات - كل انواع الصدق بالقول والفعل، وكان جيلاً مثالياً كمن هم قبله من الاجيال الصامدة، ولحق بنا عدد من جيل الثمانينيات - جيل الملينيوم، الى ان دخلت بنا جميعاً الاليكترونيات الى عالم الافتراضات الخداعة، فظهرما يسمونه جيل Z الاستاتيكي (مواليد ما بعد ١٩٩٥) القابعين وراء شاشات الكمبيوترات الشخصية بكسلٍ مقيت، وجيل الفا الديناميكي (بعد ٢٠٠٩) الراكض وراء الشاشات الصغيرة الذكية ذات التطبيقات الحركية بتسارع غير مسبوق، وعلق بنا من مستنقعات كذبهم نزرٌ يسير، اضطر بعضنا للكذب مثلهم وعليهم وعلى غيرهم، فحملنا التذاكي الاليكتروني في جيوبنا، وانعدمت بنفوسنا براءة الصدق، وأمسينا نجاهر بالتقوى، بعد ان كنا لا يرى منا ظلاً، ولا يُسمع عنا خبراً، الا لميلادٍ او وفاة، او بعض نجاحاتٍ هزلى بينهما، ولم نستطع حتى ردم الفجوة بين الاجيال الجبارة السابقة، وبين الاجيال الكاذبة اللاحقة، فانقسم المجتمع - بسبب ضعفنا رغم خضرمتنا - الى قسمين، قسمٌ يسود فيه الكذب لحدوده العليا، وآخر يضمحل فيه الصدق والصادقون لحدودهما الدنيا والقيعان.
وكنتيجة حتمية لذلك؛ اعتزل البعض بدون استئذان، وغادر البعض للدار الآخرة، وتُركت الساحات للكذابين اولي النعمة، يصولون ويجولون، يتبادلون كل الاكاذيب على بعضهم، مع انهم جميعا يعرفون الحقائق، لكنهم يستمرئون الكذب كما يستمرئ الجائع لذيذ الطعام بعد فاقة او شح، ويعاقرونه كما يعاقر المخمور كؤوس اللذة في حمر الليالي، بل في وضح النهار على قارعات الطرق، وعلى موائد النفاق المستدامة، بلا عشاء أخير يودعها، أو ينهي مسلسلها الكاذب الدرامي.
خلاصة القول؛ ان طال بنا زمن الكذب هذا، فلا مناص لنا من هروب منه الا بإحدى طريقتين؛ إما عزلة برؤوس الجبال حيث لا بشرٌ يُرى، ولا جليسَ الا كتاب قرب مدفأة شتوية، و بضع نعيجات ترعى حول كوخ من الاخشاب المستقيمة، يحرسهن كلبٌ وفيٌّ ودود، أو مماتٌ يغيض العدا ويريح النفس، يُلحقنا ببطون الارض الحبالى بالصادقين - دون ولادة تُنتظر - حتى البعث والنشور.
من مقالات - الصمت في عالم الضجيج.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان