بقلمي؛ - لم أكن يوماً للشعر ناقداً حذقاً، ولكني من سحر شعره اتزنت لدي ذائقة الشعر وبيانه، لقد أحضر الاستاذ العموش في حداثة شعره البارعة أمجاد المتنبي والفرزدق وجرير والاخطل وشوقي وطوقان والسياب، لكنه توارى عن الانظار كالشريف الرضي، هذا العياف الذي تعرف بطحاء العرب وطأته، بل وعكاظ اسطنبول والمغرب وكل بني يعرب، فصفنت جيادُه جياعاً وعطشى في ديوانه المقهور (الصافنات الجياع)، الى أن سقتها مياه البوسفور في اسطنبول، فارتوت لتصهل وتبلغ علياء شاعرية المليون في الوطن العربي - ولكنها بقيت صامتة صافنة تنتظر أنغام حاديها في جفاف صحرائها - ثكلى لم تنبس ببنت شفة، متيمة لم تفدَ مكبولة.
أمير شعراء هذا العصر في الالفية الثانية - كما منحته هذا اللقب لجنة انتخابه، وارث سدنة دواوين أحمد شوقي والمتنبي الشعرية، مهندس القوافي البارع، الذي ألان حروفها طوعى لفكره النير، ونظم بحورها الهائجة كما تشتهي أشرعة سفنه، لتحاكي محراث الفلاح ومعوله تارة، وتناغم حادي الابل في صحرائه تارة أخرى، لقد أشبعت أشعاره من به جوعٌ، وروت من به عطشٌ، وأسمعت من به صممُ، فغردت في آفاق قرى الاردن الغالي، ولامست فيافي شرقها مع سفوح غربها، وجالت من جبال شمالها لخليج جنوبها، أحبه الشعب الكادح لأنه يصدح بهمومهم والامهم بقوافيه الجزلى، التي تدخل لأعماق القلوب قبل دخولها لصميم العقول، فاحتضنتها فتيات الغدير عقدا في الاعناق، وصافحتها خشن الايادي معصما وزندا، وحلقت أبياته مع رفرفة ألوان العلم الابي كإبائها، وسطعت بهية كسطوع نجمته السباعية.
نال شاعرنا العديد من الجوائز العربية، ومثّل الاردن في الكثير من محافل الشعر العربية، وكان خفيف الظل ثقيل المعاني، فنان الصورة الشعرية، عميق الاثر في القلوب، لم يثقل على أحد بتذاكر سفره أو مطعمه ومشربه خلال ترحاله، بل حمل بدلاً منها هموم كل عربي في وطنه، فكان يعاني - مثلهم - قساوة العيش وضراوة قلة ذات اليد، بلا تذمر ولا شكوى، وبقيت جياده الصافنة تسابق جياد شعراء عصره - رغم عطشها وجوعها، ضامرة البطون عامرة العقول، فحُق لأمير شعراء هذا العصر - شاعر البطحاء محمدا - ان يفخر برسالته السامية، وتضحياته الفاضلة، وإن كانت لم ترَ النور في مسارح نفاق هذا الزمن الغريب.
ان عصر التكنولوجيا هذا لا يألوا جهدا في تعريف واظهار الحقائق مهما خفيت، فلن اعرّف من هو الشاعر الاستاذ محمد العياف العموش، وصفحات الانترنت تزخر بشعره مكتوبا ومسموعا، يستطبع ان يتصفحها القاصي والداني ليعرف عن اي شاعر فحل جهبذ نتحدث، لكن الذي لا تظهره وسائل الإعلام وخاصة المحلية منها هو تازيخه المنسي، انه من مواليد قرية نائية في ارياف المفرق الغربية - دير ورق - في اوائل سبعينيات القرن المنصرم، والتي بطبيعتها الخلابة منحته فطرة الشعر وسلاسة المنطق وتسلسل الافكار، فامتزج عبق سفوح القرية الطاهر ببعض عواصف صحراء المفرق البدوية معاً في مراكز دماغه الشعرية، فأوهبت نسائم الاشجار الرقيقة مع هبوب عبقرية الصحراء الملهمة لشخصيته الشعرية ما لم توهبه لغيره، وتأثرت بها قوافيه نظما ومعنى، فأخذت من وضوح الصحراء وبساطتها وبلاغتها، كما أخذت من جمال غروب الشمس خلف اشجار السرو والصنوبر والزيتون في جبال قراها، فخرجت كأجمل لوحات فنية على مستوى الوطن العربي، وكأنها رسمت بريشة كبار الفنانين، وصورت بعدسات أدق المصورين.
ومن قصيدته (هكذا تكلّم الشعرُ) اقتبس هذه الابيات التي تلخص مقصد مقالي هذا عنه بما تحمله من عتاب رقيق مقيد خلف نبضات الحروف، وله غيرها من القصائد الجميلة ما يناسب كل اطياف المجتمع واعمارهم واحلامهم :
بُليث بالشعر ، يا طالوت معذرة
لقد تضلّعتُ ، لما غيريَ اغترفا
قد تهزمُ الشاعرَ الصنديدَ قافيةٌ
لكنه أبداً لا يخسرُ الشغفا
ويخسرُ الفارسُ المقدامُ معركةً
لكنه أبدا لا يفقدُ الشّرفا
أشهى القصائد ما تأتي مباغتةً
وأروع الشعر ما ياتيك منعطفا
ففي استقامة سير النهر مقتلُهُ
لذا يجيئك ملويا ومنحرفا
لم تندلع في سبيل الحب معركة
إلا وكنا على جبهاتها طرفا
في جعبة الماء ألوانٌ مكدّسةٌ
لكنّه انحاز ل اللالونَ حين صفا
لا تـُـرهـِـقوا الشـَّــاعرَ الدرويشَ ، يـُـحرجهُ
في حـَـضرةِ الملأ الأعلى إذا انكشفا
رأسي الذي اندقّ في كتفيّ أرهقني
أمِلهُ ، قال المدى : لا ، لم أجد كتفا
خلاصة القول؛ أما آن لهذا الفارس الممتطي صهوة الشعر ان يترجل في بلده؟ وان ترعى وزارة الثقافة الاردنية وزراً اثقل كاهليه، لتسمح لأشعاره بالتجوال في صفحات مناهج هذا النشئ، وتظهر على شاشات التلفزة والاعلام المحلي، ليس لما فيها ما فيها من وطنية حقة حتى نخاع ذرات التراب الذي خرج منه هذا الشاعر الاغر الفخم الأجود فحسب، بل ليعلم كل هذا الجيل الصاعد ان تراب الاردن الغالي الذي انبت محمدا وعرارا وحبيبا سينبت حتما ودوما من ابنائه الاردنيين شعراء مثله، يحملون الراية بعده، ليبقى ويبقون فخرا لهذا البلد المعطاء بنوعية انسانه الفريدة المميزة - فهم ماؤها ونفطها وفخر صناعتها.
من مقالات - الصمت في عالم الضجيج
الدكتور المهندس أحمد محمود الحسبان.