في حدود الثامنة من صباح الخميس، كنت اقلب الرسائل الواردة لواتساب، ومن بينها رسائل مستمرة، هي روابط لأخبار، تردني من زملاء يملكون او يعملون بمواقع اخبارية اليكترونية، وقلما افتح تلك الروابط، لكنني فتحت أحدها «بالخطأ» ذلك الصباح، فقرأت «انتحار طبيبة بإلقاء نفسها من الطابق السابع.. التفاصيل تصلكم لاحقا».. آلمني الخبر، لكنني لم أجد وقتا للتفكير فيه، لأن الطابق السابع الوارد في الخبر أعطاني انطباعا بأنه ربما يكون المستشفى الذي اعرفه، وهذا ما دفعني وبسرعة كي اتصل بابنتي... التي غادرت منذ السابعة لتستلم «الشفت» من زملائها المناوبين ليلة أمس.. فردت بصوت منخفض جدا، وسألتها على الفور: بتعرفيها يا بابا؟.. فقالت: يا حرام، الله يرحمها.. زميلتي من نفس الدفعة، بعرف اسمها، هي من مجموعة ثانية.. فتذكرت بأن ابنتي ستناوب هذه الليلة، ولن تحضر للبيت الا صباح الجمعة، فقاطعتني ابنتي.. خلص يا بابا بنحكي بعدين، فهي كانت في حالة حزن اعتقد بأنها تخيم على كل الأطباء والكوادر وحتى المرضى والمراجعين في مستشفى الجامعة، لا أريد أن أصف لكم نفسيتي بعد ان هاتفت ابنتي، حيث انتقل تفكيري بسرعة لحالة والد ووالدة وأهل الطبيبة المتوفاة، فقلت لا حول ولا قوة الا بالله، الله يصبرهم ويكون بعونهم..
لم تفارقني حالة الحزن والتعاطف مع ذوي الطبيبة التي لم أسأل ابنتي حتى عن اسمها، ووردتني عبر الهاتف مسجات، هي أسئلة: مين الدكتورة اللي انتحرت، شو قصتها.. ولا يسألونني لأنني صحفي فقط، بل بعضهم اقاربي ويعلمون أن ابنتي طبيبة مقيمة في مستشفى الجامعة، ويريدون معلومة، ولا ادري إن كانوا يعتقدون بأنها ابنتي.. الخبر كان متحفظا ولم يذكر اسما ولا موعدا، ولم أجب على كل السائلين، فالمسألة في بلدنا مسألة وقت، لتنطلق التحليلات والأخبار التي تتقصى الاثارة وتبحث عن الفضائح، فكل الشعب مصاب بآفة نقل الكلام وغالبية عظمى تجد في مثل هذه الظروف الحرجة التي يعيشها بعض المنكوبين والمفجوعين والمتوفين أيضا، يجدون فيها ضالتهم المرضية، فتنطلق افكارهم السوداء وتفكيرهم المعتم، ومواهبهم الشيطانية الدفينة، فيخوضوا في مصائب الناس بلا رحمة ولا ضمير ولا أدنى مسؤولية.. وكلهم يعتبرون أنفسهم صحفيين مهمين.
كنت أراجع معاملة في إحدى المؤسسات ذلك اليوم، وفيها طوابير من المراجعين، وحوالي الساعة 11 صباحا، وأمام تكرار السؤال الموجه لي حول الحادثة، قمت بالاتصال مع د محمد واصف، مدير وحدة الاعلام والعلاقات العامة في الجامعة الأردنية، فسألته عن الحادثة، وهل ظهر تقرير الطب الشرعي، فأجابني بالتزام معهود وبمهنية حقيقية : الحادثة قيد التحقيق من قبل الأجهزة الأمنية، وأنت صحفي وتعلم بأننا لا يجوز لنا التصريح عن معلومات حولها الا بعد اكتمال التحقيق وظهور تقرير الطب الشرعي، وعبر عن تأثره بالحادثة، وعن ذهول واستياء د الطبيب نذير عبيدات رئيس الجامعة، وسائر أطباء وموظفي مستشفى الجامعة، وهو الاستياء الذي يتضاعف أمام سيل الأخبار والتفاصيل والاستنتاجات التي يتناقلها الناس حول حادثة. يقول لي : حتى نحن لم نعلم بعد تفاصيلها الكاملة، وأضاف بأن بعض انجازات الجامعة والمستشفى تكون فريدة من نوعها، ونخاطب كل وسائل الاعلام والمهتمين عنها، ولا يحظى الخبر باهتمام يذكر، مقارنة بهذه الهمة الاعلامية المسيئة حتى للإنسانية، والتي قفزت عن قيم واخلاق وعادات المجتمع الأردني، لتصبح بيئة خصبة لإطلاق الإشاعات بحق الأهل الذين يعانون هول مصيبتهم، واطلاق الأكاذيب أيضا ضد المؤسسات والموظفين ..
المجرمون.. استمروا في كيل الاشاعات والأكاذيب والاتهامات، ولم تسلم الطبيبة المسكينة المتوفاة من ألسنتهم وأفكارهم الصدئة، وحين كررت الاتصال بابنتي الساعة الرابعة عصر ذلك اليوم، ابدت تفهمها لكثرة اتصالاتنا معها من البيت (امها وشقيقاتها وأشقاؤها.. ثم اتصال ثان مني)، وهنا وجدت نفسي ملزما بالتحدث بمنطق والد لديه ابنة طبيبة تعمل في المستشفى نفسه، وربما ترتاح وقت مناوبتها بنفس الغرفة التي كانت ترتاح بها تلك الطبيبة المرحومة، ولم يتم حتى تلك الساعة (بالنسبة لي) حسم سبب الوفاة، فمن الطبيعي أن أسأل.. فبادرتني ابنتي، صدر تقرير الطب الشرعي وأكد بأنها حالة انتحار، فحسمت كل الكلام والتساؤلات بالنسبة لي.
قلت في نفسي لم لا؟.. لأشاهد الميديا التائهة والصحافة السطحية ماذا قالوا اليوم عن الحادثة، وكيف نقلوها.. ولم أتفاجأ بالذي قرأته، فأنا أدرك حجم الدمل الذي يقبع في عقول وقلوب هؤلاء المرضى، الذين يتكاثرون حول هذه الحوادث كتكاثر الذباب وغيره من الحيوانات على الجيف، فوجدت من خرج باستنتاج بل بدراسة تفيد بأن 3 حالات انتحار وقعت في عمان خلال 24 ساعة، واستنتج بأن حالة انتحار واحدة تقع في الأردن كل 8 ساعات، وشطح ونطح في تفسير اسباب الانتحار، وذكر شيئا حول اسباب انتحار (الأطباء) المقيمين.. ولا يعرف هذا بأن أطباء مستشفى الجامعة الأردنية كلهم أطباء أكاديميون، يعملون في كليات الطب وطب الأسنان كأعضاء هيئة تدريس، وأن مستشفى الجامعة لا أطباء مقيمين فيه سوى الأكاديميين، الذين يكملون الاختصاص العالي في تخصصاتهم، فهم ليسوا موظفين مستشفيات القطاع الخاص، ولا مستشفيات وزارة الصحة، أي أن ظروف العمل بالنسبة لهم مريحة أكثر من غيرهم، ولم يسمع أحد بأن طبيبا أنهى حياته لأنه طبيب مقيم بمستشفى الجامعة ويتعب حتى تفضيل الموت على الحياة..
هل أذكر لكم ماذا قرأت أيضا من أخبار وتحليلات حول تلك الحادثة ذلك المساء؟! كلها مؤسفة وتشعركم بالخجل والحزن على هذا الشعب المبتلى (بهيك اعلام)..
رحم الله الطبيبة ميرينا، وألهم والدها الصبر والسلوان، ولا حول ولا قوة الا بالله، وحسبنا الله بكل فاقد للانسانية والإحساس وممسوس بمرض بل بمتلازمة النت - اللايكات - السقوط.