مع إقتراب الحرب الروسية – الأوكرانية من شهرها الثامن أو بما يسميها الروس بالعملية الروسية داخل أوكرانيا, وفي الميدان أصبحت المعركة عبارة عن كرٍ وفرٍ من إحتلال روسي لأراضي أوكرانية ثم إسترجاعها بهجوم معاكس من قبل الأوكرانيين ,لا نرى أي تقدم يُذكر من الطرفين , الطرف الروسي الذي يُقاتل ب195 ألف جندي معظمهم من الإنفصاليين , والطرف الآخر هو الجيش الأوكراني المدعوم عسكرياً من الولايات المتحدة بشكل كبير ورئيسي وبدعم متواضع من أوروبا. إن القارىء المتعمق في هذه الحرب يجدها الآن حرب إقتصادية , وبجانب ذلك ميدان لتجريب الأسلحة المتطورة من الجانبين الروسي والأمريكي وهذا ما سنتحدث عنه في هذه المقالة بعيداً عن الحرب الإقتصادية وأزمة الطاقة العالمية وخصوصاً في أوروبا نتيجة الحرب, وما ستحققه من إضعاف للإقتصاد الأوروبي .
إن روسيا تدرك جيداً كما تُدرك الولايات المتحدة أنه لن يكون هناك غالباً ولا مغلوباً في هذه الحرب وبنهاية الأمر سيكون هناك مفاوضات تُفضي إلى جلوس جميع الأطراف على طاولة المفاوضات, وهذا الزمن سيحدده الأوروبيون وبالأخص الشعوب الأوروبية وذلك بمقدرتهم على التحمل للظروف الصعبة التي فُرضت عليهم جراء الحرب من إرتفاع غير مسبوق في أسعار السلع والطاقة , وربما صعوبة الحصول على الأخيرة خصوصاً مع إقتراب فصل الشتاء القارص في أوروبا, مما سيدفع الشعوب الأوروبية إلى الضغط على حكوماتهم لإيقاف عمليات تجريب الأسلحة كما أُسميه وأقرأه جيداً, لأن الدولتين العظميين روسيا والولايات المتحدة تدركان معاً بأنه لن يكون مجابهة مباشرة بينهما نظراً للقوى العسكرية الهائلة التي يتمتعان بهما وخصوصاً السلاح النووي الفتّاك.
من خلال النظرة التحليلية لمبيعات الأسلحة الأمريكية فقد هبطت عام 2021 إلى 138 مليار دولار مقارنة بمبيعات وصلت عام 2020 إلى 175 مليار دولار , والسوق الأمريكي لبيع السلاح تتصدره أكبرخمس شركات أمريكية بالترتيب حسب المبيعات السنوية شركة لوكهيد مارتن يتبعها شركة بوينغ وبعدها شركة نورثرب غرومان ومن ثم شركة رايثيون وأخيراً شركة جنرال داينامكس , فالفرصة الآن مواتية لمضاعفة هذه الأرقام التي إنخفضت وذلك بزيادة المبيعات من السلاح لكل من أوكرانيا ودول حلف الناتو وخصوصاً تلك المجاورة للنزاع , فمن المتوقع أن تزداد المبيعات للأسلحة بموجب هذه المعطيات إلى 100% خلال الثلاثة سنوات القادمة إضافة إلى عقود الحماية لتصل ما مجموعه إلى 1000 مليار دولار , وهذه الفاتورة ستتكفل بها الدول الأوروبية, إضافة إلى تجريب الأسلحة المتطورة والمصنعة حديثاً على مسرح العمليات في أوكرانيا, بعد متابعة أدائها بواسطة غُرف العمليات والأجهزة الإستخبارية والخبراء ومن خلال الأقمار الإصطناعية المُعدة للأغراض الحربية التي تراقب مسرح العمليات في أوكرانيا , ليتم تقييم الأداء وإعطاء تقارير مُفصلة للشركات الصانعة ليتم التعديل عليها , وهذا كله يوفر مليارات الدولارات على الشركات الصانعة من خلال عمليات الفحص والتطوير والبحث العلمي , فيكونوا قد حققوا هدفين في وقت واحد بيع أسلحة متطورة وحديثة والحصول على نتائج لأدائها, ولا ننسى فائدة أخرى بأن يُقاس أداء هذه الأسلحة مع قرينتها الروسية ولمعرفة هل كان لديها تفوق أو إخفاق ليتم تعديلها من جديد, لتخرُج بصورة جديدة أثناء عرضها في معارض الأسلحة العالمية السنوية لتُحقق أعلى مبيعات عالمية.
أما الجانب الروسي والذي إحتل المرتبة الثانية بمبيعات السلاح بنسبة 19% بعد الولايات المتحدة بنسبة 39% وبعدها فرنسا بنسبة 11% والصين بنسبة 4.6% فألمانيا بنسبة 4.5% , وهذه إحصائية من عام 2017-2021 كأعلى خمس دول بمبيعات السلاح إستحوذوا على 77% من السوق العالمي والذي بلغ عام 2021 مبلغ 2113 مليار دولار, فالسياسة الروسية المتبعة في الحرب الأوكرانية تشبه السياسة الأمريكية إلى حد كبير, فنرى الإدارة الروسية للحرب لغاية الآن عبارة عن إستخدام لأسلحة متطورة تضرب فيها عن بُعد لأهداف أوكرانية لمراقبة مدى فاعلية ودقة هذه الأسلحة المتطورة من صواريخ موجهة طويلة المدى وأخرى قصيرة ومنظومات دفاعية ومقارنة أدائها بما تستخدمه أوكرانيا من الأسلحة المتطورة التي تحصل عليها من الولايات المتحدة.
إن هذا السيناريو ينتظر فصل الشتاء الذي تراهن عليه روسيا لإجبار خصومها على الجلوس معها على طاولة المفاوضات وإذا فشل هذا الخيار من الممكن أن تفكر روسيا بالإجتياح الكامل للأراضي الأوكرانية, إلا إذا أخلت الولايات المتحدة بقواعد اللعبة وهي إرسال صواريخ بالستية طويلة المدى ممكن أن تطال الأراضي الروسية أو إرسال طائرات قتالية متطورة لضرب الأهداف في العمق الروسي , كل ذلك سيدفع روسيا إلى خيارين , إستخدام قنابل نووية تكتيكية محدودة أو محاولة إسقاط الأقمار الإصطناعية الخاصة بإدارة وتوجيه العمليات الحربية الأوكرانية من تحكم بالصواريخ وتحديد الأهداف الروسية وغيرها, ناهيك عن إعلان الروس بأن الولايات المتحدة ستكون طرفاً مباشراً في الحرب مما يعني إستهداف الأهداف داخل أراضيها.
إن ما يحصل في أوكرانيا لم يرتقِ إلى حرب بعد,لأن الدولتين العظميين ملتزمتين بقواعد اللعبة, لكن على ما يبدو أن كلاً منهما يتوقعان الأسوء في المستقبل القريب , وتوفير جهدهم وطاقتهم الكاملة لذلك وعدم إستنزافها , وخصوصاً أن الولايات المتحدة تدرك جيداً أن غريمها ليس روسيا بل الصين , فهل هذا المسرح العملياتي هو تحضير لحرب قادمة حقيقية تكون فيه الصين حليفاً مع روسيا ضد الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
م.مهند عباس حدادين
الخبير الإقتصادي والمحلل الإستراتيجي
رئيس مجلس إدارة شركة جوبكينز
mhaddadin@jobkins.com