زاد الاردن الاخباري -
كان المشهد صعبا، الدموع اختلطت مع مشاعر حزن عميق، هذا كان حال المعلمة الأوكرانية، هالينا، التي لملمت أغراضها من الغرفة الصفية، قبل أن تغادر مدرسة كانت تعمل بها في جنوب أوكرانيا، حيث يسيطر الروس على مدن وقرى، ويفرضون فيها أنظمة التعليم الروسي الذي يلغي كل شيء أوكراني.
لم تجد هالينا مفرا من تقديم استقالتها حين فرض عليها مدير المدرسة أن تعلم الطلاب منهجا روسيا. لم تستطع هالينا استيعاب الفكرة التي قبِل بها نحو ثلث معلمي المدرسة، فقررت الاستقالة، وفق تقرير لصحيفة "الغارديان" يحكي قصة هذه المعلمة التي تكشف حجم استهداف نظام التعليم الأوكراني في المناطق التي يسيطر عليها الروس.
"دموع تنهمر"
دخلت هالينا الغرفة الصفية، وملأت كيسا بلاستيكيا بقصائد باللغة الأوكرانية كتبها طلابها الذين ثبتوها على الجدران، كما أخذت إناء مزروع فيه نبات القدر المفضل لديها، وعندما غادرت المبنى، رأت العمال يزيلون ملصقات الأبطال الوطنيين الأوكرانيين من الممرات.
وتقول هالينا بصوت منكسر وهي تصف اللحظة الصعبة للصحيفة: "تخيل، لقد عملتُ في تلك المدرسة لأكثر من 25 عاما، خرجت من هناك، بمفردي، أحمل إناء فيه نبتة وكيسا من القصائد، والدموع تنهمر على وجهي".
بداية القصة
بدأت قصة هالينا في الصيف، بعد عدة أشهر من استيلاء الروس على جزء كبير من جنوب أوكرانيا في الأيام الأولى من الحرب، وبالتحديد حين اجتمع مدير المدرسة التي كانت تعمل بها مع المدرسين، وقال لهم إن المدرسة ستتعاون مع سلطات الاحتلال الروسي، وستعيد فتح أبوابها للعام الدراسي الجديد في سبتمبر، لتدريس المنهاج الروسي.
وقال مدير المدرسة للموظفين، ومنهم هالينا، التي كانت تعمل نائبة له: "أوكرانيا تخلت عنا ولن تعود، والآن الروس يقدمون لنا العروض. إذا لم نقبل، فسيرسلون أشخاصا جددا من روسيا لإدارة المدرسة، ولن يكون لديهم أي ارتباط بها. من الأفضل أن نبقى هنا".
قالت: "وافق حوالي ثلث المعلمين، لكن بالنسبة لي، كنت أعرف أنه لا توجد طريقة يمكنني من خلالها العمل مع الروس"، فأخبرت مدير المدرسة أنها ستستقيل.
عندما عادت إلى المدرسة بعد بضعة أيام ، أخبرها مدير المدرسة أن جميع الكتب المدرسية الأوكرانية في المدرسة سيتم إتلافها في الأيام القادمة، لذلك إذا أرادت أي شيء، فعليها أن تأخذها معها إلى المنزل.
"خائنة"
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل واجهت هالينا تحريضا ممن يؤيدون الروس، ووصفها البعض في اجتماع عقد لأولياء الأمور بأنها "خائنة"، وأنها محرضة مؤيدة لأوكرانيا وقد وضعت على قائمة المراقبة لأجهزة الأمن الروسية.
لم تجد هالينا خيارا أمامها سوى الهروب إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش الأوكراني خشية استهدافها أو اعتقالها.
كما لم تكشف الصحيفة اسمها الحقيقي أو اسم المدينة التي شهدت أحداث القصة خشية على سلامة أفراد عائلة هالينا التي لا يزال أفرادها يقيمون في نفس المدينة تحت سيطرة الروس.
قصة هالينا مثال لقصص كثيرة تظهر أن سياسة روسيا تركز على الاستيلاء على كل شيء في أوكرانيا.
ويأمل الكرملين أنه من خلال إدخال المناهج الروسية في المناطق التي يسيطر عليها، يمكنه تشكيل جيل جديد من المخلِصين الذين سيقبلون وجهة نظر روسية للتاريخ الأوكراني.
إجبار المعلمين
كان المعلمون الأوكرانيون مترددين في العمل مع الروس، ويقول المسؤولون الأوكرانيون إن هناك نمطا من الضغط والتهديدات تجاه هؤلاء المعلمين.
ويقول المسؤول التربوي الأوكراني، سيرغي غورباتشوف: "لقد تلقينا مئات الرسائل من الأراضي المحتلة" بهذا الشأن.
وقال: "إنهم يجبرون المعلمين على استخدام المناهج الروسية، ويجلبون كتبا مدرسية روسية، مضمونها يرسخ فكرة أن الأوكرانيين والروس شعب واحد، برسائل مليئة بالإمبريالية الروسية، إنها الحزمة الكاملة".
وقالت هالينا إن بعض المعلمين وافقوا على التعاون مع الروس بدافع البراغماتية، مرددين اعتقاد مدير المدرسة بأنه كان من الضروري إيجاد طريقة للتكيف مع الواقع الجديد.
وقال غورباتشوف، وفق الصحيفة، إنه ليس من العدل إصدار أحكام على المعلمين الذين وُضِعوا في موقف صعب.
وأضاف "ليس لدينا حق أخلاقي ولا قانوني في مطالبة الناس الذين يعيشون تحت الاحتلال بالبطولة. يجب أن تكون أهدافهم الرئيسية إنقاذ الأرواح وليس التعاون الطوعي. إذا أُجبروا على التعاون، فعليهم جمع الأدلة على أنهم مجبرون على ذلك.
عقوبات
ويطالب العديد من المسؤولين الأوكرانيين بفترات سجن طويلة لأي شخص يوافق على التعاون مع نظام التعليم الروسي، مستشهدين بدور المعلمين في نشر التحريف التاريخي الذي يغذي الغزو الروسي.
وقد يؤدي النجاح المفاجئ الأخير للهجوم الأوكراني المضاد في منطقة خاركيف، وكذلك الضربة التي استهدفت المباني الإدارية في وسط خيرسون المحتلة بصواريخ هيمارس بعيدة المدى، الجمعة، إلى تغيير هذا الواقع الخطير الذي يعيشه المدرسون الأوكرانيون.
وقالت السلطات الأوكرانية، في الأيام الأخيرة، إنها احتجزت معلمين كانت روسيا أرسلتهم إلى خاركيف المحتلة، لكنهم تُركوا هناك عندما انسحب الجيش الروسي.
وقالت نائبة رئيس الوزراء الأوكرانية، إيرينا فيريشوك، إن هؤلاء المعلمين سيحاكمون أمام المحاكم الأوكرانية، وقد يواجهون عقوبة السجن التي تصل إلى 12 عاما.
خطط إرسال معلمين
وترجح الصحيفة أن تكون موسكو وضعت خططا لإرسال مدرسين روس إلى المناطق المحتلة.
ولم تخطط سلطات خيرسون لإرسال معلمين من روسيا، لكنها زعمت أن بعض المعلمين الروس "يريدون القدوم ومساعدتنا".
وقالت سلطات الاحتلال في منطقة زاباروجيا المجاورة في أواخر أغسطس إنها تتوقع وصول 500 معلم من روسيا.
وتشير الصحيفة إلى أن جزءا من عمل المدرسين الروس هو "مساعدة" المعلمين المحليين على الانتقال إلى المناهج الروسية، خاصة بالنسبة لمواد مثل التاريخ، حيث سيختلف برنامج المدرسة الروسية اختلافا كبيرا عن البرنامج الأوكراني.
وتقول هالينا إنه لم يصل أي مدرسين روس إلى بلدتها حتى الآن، لكن كانت هناك شائعات مستمرة عن احتمال ظهورهم قريبا.
كانت قد تلقت بالفعل مكالمة هاتفية من مسؤول محلي أخبرها أنه بسبب مغادرتها، سيتم الاستيلاء على منزلها واستخدامه للمعلمين أو غيرهم من المهنيين الروس المتوقع وصولهم في الأيام المقبلة.
وافتتحت المدرسة للعام الجديد في الأول من سبتمبر، مع حوالي ثلث العدد السابق من المعلمين والطلاب، والجنود الروس المسلحين يقفون في الخارج.
تهديد
في محاولة لتحسين الالتحاق بالمدارس، هددت السلطات الروسية أولياء الأمور بإمكانية إرسال أطفالهم إلى دور الأيتام إذا لم يسجلوا في المدرسة التي أصبح سكانها ينالون الجنسية الروسية.
كما أعلن عن حوافز في منطقة خيرسون المحتلة، حيث أعلنت السلطات عن دفع 10000 روبل نقدا لكل طفل سجل للعام الدراسي.
وفي الوقت ذاته، أنشات هالينا، جنبا إلى جنب مع زملائها في التدريس الذين لم يرغبوا في العمل مع الروس، نسخة عبر الإنترنت من المدرسة التي تواصل تدريس المناهج الدراسية الأوكرانية، باستخدام الخبرة المكتسبة أثناء الوباء.
ويقوم طلاب ومعلمون فروا من مسقط رأسهم بتسجيل الدخول من أجزاء أخرى من أوكرانيا وخارجها.
واتصل عدد قليل من الآباء والأمهات الذين ما زالوا يعيشون في البلدة بهالينا ورتبوا لأطفالهم الالتحاق بالمدرسة عبر الإنترنت في فترة ما بعد الظهر، بعد أن أنهوا دروسهم في المدرسة الروسية.
وقالت: "لكنهم قلقون للغاية، فقد أخبر المعلمون الأطفال أن الشرطة ستأتي وتفحص أجهزة الكمبيوتر والأجهزة اللوحية الخاصة بهم، للتأكد من أنهم لا يواصلون دراستهم سرا في المدرسة الأوكرانية".
ويبدو أن الروس قلقون للغاية بشأن استمرار المدرسة عبر الإنترنت في نشر النفوذ الأوكراني، لدرجة أن مكتب الأمن الفيدرالي قد قبض على قريب لأحد المعلمين المشاركين في المدرسة واستجوبه بشأن المشروع.
كما داهمت القوات الروسية المنازل الخالية من المعلمين المشاركين في المشروع، بحثا عن "أدلة" حول المدرسة، كما أفاد الجيران.
وقالت هالينا إنه مع مرور كل أسبوع من المرجح أن تتعمق الانقسامات بين المقاومين والمتعاونين بشأن التعليم، "أنا فقط أنتظر كل يوم أن يحرر جيشنا البلدة، آمل أن يحدث ذلك قريبا".