زاد الاردن الاخباري -
مهدي نصير - رواية «الحمراوي: من حياة رجل فقد الذاكرة» لرمضان الرواشدة، هي روايته الأولى والمنشورة عام 1990 وتقع في 80 صفحة، والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وهي رواية السارد الحمراوي ابن الناعسة وسمعان وابن القرية الأردنية الجنوبية وتسرد تطوافه في أساطير قومه وحكاياتهم وصراعاتهم ومناخات بلده الأردن السياسية والاجتماعية والاقتصادية في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، تقاطع هذا الحضور الكثيف للعشيرة وحكاياتها وأساطيرها مع اجواء الحلاج وتيسير سبول وفوتشيك ومرسيل خليفة وبيروت والحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وأيلول 1970، وتواصل السردية عبر هذين المناخين وترصد عودة السارد بعد سقوط بيروت للسجن والاعتقال وترصد تفاقم الصراع والتحولات في شخصيته.
يصعد السرد ويهبط في متتالياتٍ ترصد تطور هذا الصراع الموجع وترصد معه الآفاق التي يتحرك الساردُ فيها ومنها قصة عشقهِ لعزَّة وفشل هذه القصة كفشل وانكسار كثير من قصص الشباب الاردني في الثمانينيات في بداية انفتاح وعيهم على العروبة والثورة والفكر البعيد عن العشيرة والبحث عن الخلاص والتقدم لمجتمعاتهم برومانسيةٍ ثوريةٍ حالمةٍ سادت في تلك الفترة، السارد الحمراوي: هل هو الأسطورة عمران الحمراوي أم هو مؤسس عشيرة الحمراوي عز الدين أبو حمرا وأساطيرها أم هو ابن سمعان أم انه كل هؤلاء معاً؟
الصراع بين البدو والفلاحين في الماضي كان حاضراً، قصص العنود ومكازي والحاجة سارا وغيبوبتها التي امتدت ستاً وعشرين سنة وعادت لتروي أسطورتها، أحداث جامعة اليرموك عام 1986 كانت حاضرةً، وهبة نيسان 1989 كانت أيضاً حاضرةً في سردية الرجل الذي فقد الذاكرة القصيرة وامتلك الذاكرة الجماعية الطويلة والعميقة الجذور والتي ترصد تحولات الحمراوي وترصد من خلال هذي التحولات مناخات وتحولات المثقف الأردني في فترة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وحتى الآن، هذا الحضور الكثيف لأساطير وحكايات العشيرة وفي مقابلها شعارات ومقولات وأشعار وموسيقى ثورية شكَّلا معاً طرفي الصراع في داخل شخصية الحمراوي وأربكاه وأدخلاه في هذا الانفصام وغرابة الأطوار الذي ركَّزت عليه سردية الرواية بقصديةٍ واعية.
هذه الرواية هي روايةٌ نمطيةٌ بساردٍ واحدٍ وصوتٍ واحدٍ يجسد التناقضات التي بدأت تتشكل في بنية المجتمع الاردني والبؤس الذي سيرافق هذه التحولات، وترصد بوعيٍ أو بدون وعيٍ كافٍ تحولات المثقف الأردني والصراع الذي سكنه في التوفيق بين متناقضات شكَّلت جزءاً عضوياً من تكوينه الذهني والسياسي والاجتماعي، القبيلة والحزب والسلطة والفكر اليساري والثقافة اليسارية المسيطرة والبطش والسلطة والتراث القبلي المسيطر والطموحات والحب والعشق والانفتاح على مناخات الحياة والتي بدأت بالتشكل في خمسينيات القرن الماضي وتكرَّست في الستينيات مع افتتاح الجامعة الأردنية ومن ثم جامعة اليرموك واللتين شكَّلتا حاضنةً فكريةً وحزبيةً ومناخاً جديداً للقرويين والبدو اللذين قدموا من أرياف وبوادي الأردن ليلتقوا ويتناقشوا ويتصارعوا ويتعلموا من بعضهم ومن أساتذتهم الذين أيضاً اختزنوا تجاربَ فكريةً ثرية في الجامعات العربية والأجنبية التي درسوا فيها والأحزاب التي انتموا إليها سواءً كانت أحزاباً يساريةً أو قوميةً أو دينية، كلُّ هذه المناخات كانت حاضرةً بكلِّ وهجها وكانت تحاول أن تُشكِّل جدلاً في أذهان الشباب الأردنيين القادمين من أريافهم وبواديهم ببساطتهم وخلوِّ أذهانهم من الكثير من الأفكار والكثير من تاريخ هذه التيارات السياسية والفكرية التي شكَّلت مرجعيةً لهذه الأفكار الجذرية والجديدة، كذلك كان حضور التنظيمات اليسارية الفلسطينية بمرجعياتها اليسارية والقومية والشرعية التي امتلكتها من خلال عملها الفدائي المسلح ضد العدو الصهيوني، كلُّ هذه المناخات شكَّلت صدمة الوعي الأولى لهؤلاء البدو والفلاحين القادمين من إرث العشيرة ليجدوا أمامهم إرثَ الأمَّة وتحدياتها الكبيرة.
كانت هذه التناقضات حاضرةً بقوةٍ في الحمراوي ابن القرية الجنوبية البسيطة وعبَّر عنها بلغةٍ فصيحةٍ وسلسةٍ وتقترب من اللغة الشعرية الرومانسية في انسجامٍ عالٍ مع مناخ الحمراوي السارد الذي يعيش كلَّ هذه التناقضات وتُصيبه بصدمة الوعي الفعلي وتُصيبه بالانفصام النفسي وغرابة الأطوار كشكلٍ من أشكال رد الفعل على صدمة الوعي الثقافي وتناقضاته، وشكَّل التداعي الحر للسرد والانتقال العشوائي بين مواضيعه واحداً من ثيمات هذا العمل الروائي .المتوائمة مع حالة السارد الذهنية المركَّبة.
قصة الطبق الطائر ومملكة اورانس وامبراطورية مجرة درب التبانة وقصة شارع الجاردنز ربما كانت إضافاتٍ وتنويعاً لم يضف شيئاً مختلفا لبنية الروايةالأساسية .
رواية رمضان الرواشدة «جنوبي» والصادرة عام 2019 عن دار الشروق للنشر والتوزيع وتقع في 96 صفحة، شكَّلت هذه السردية امتداداً لسيرة الحمراوي وهي أقرب للسيرة الذاتية ل»جنوبي بن سمعان « وتحولاته الفكرية غير الكاملة وربما غير الناضجة من العشيرة للناصرية للماركسية والتنظيمات اليسارية الفلسطينية واشتراكه بالقتال في لبنان مع الثورة الفلسطينية في عام 1982 عام الاجتياح الاسرائيلي لبيروت وخروج الثورة الفلسطينية منها إلى الشتات وبداية انهيار الحلم الفلسطيني بالتحرر، عودة جنوبي بن سمعان بعد سقوط بيروت وهو بعد شابٌ صغير ولم يدخل الجامعة بعد ودخوله للسجن في الاردن ومن ثم التحاقه لدراسة الأدب الانجليزي في جامعة اليرموك عام 83 وبداية تحولاته الفكرية والحزبية ومشاركته في الاعتصامات والمظاهرات في احداث جامعة اليرموك عام 86 التي انتهت بتدخل قوات البادية وإنهائها الحركة الطلابية التي عبَرت عن ولادة وعيٍ طلابيٍّ ناضجٍ تم القضاء عليه، وتم معه القضاء على ريادة جامعة اليرموك وتحويلها لمستوعَبٍ بشريٍّ فقدَ الكثير من بريقه وحضوره وتأثيره والكثير الكثير من حيويته، يواصل السارد رحلة تحولاته ومشاركته بعد التخرج في هبة نيسان عام 1989 واعتقاله وتطور تحولاته للصوفية على الطريقة الجنوبية وإفراده مساحةً كبيرةً لنص صوفي ذاتي في متن السرد كانَ لافتاً في روايةٍ قصيرةٍ وكثيفة السرد، كأنَّ هذا النصَّ الصوفي الجنوبي كان برزخاً ومقدمةً ومبرراً للتحول القاسي الأخير، كل هذا التطواف كان مقدمةً للتحول الأخير وهو التحول والخضوع وتقمص «مثقف السلطة» الذي سكن في هذه السردية ومقدماتها وسيرة تحولات جنوبي القاسية، وكأن هذه السردية الموجعة جاءت اعتذاراً لمن يستحقون الاعتذار عن هذا التحول القاسي الأخير، والذي اعتذر عنه السارد في ختام روايته بالجزء الأخير الذي حملَ عنوان « آهٍ منكم أيها المثقفون الأوغاد « وكأنه يقول وأنا منكم ومثلكم أيها المثقفون الأوغاد، الرواية كأنها كانت تحديثاً وتطويراً للحمراوي وتحولاته اللاحقة وكان يمكن أن يكون عنوانها «تحولات الحمراوي الأخيرة؟».
صراع العشيرة والحزب والسلطة كان هو الانفصام الكبير في شخصية الحمراوي الذي هو «جنوبي بن سمعان» في كلتا الروايتين، وهذا الصراع والوجع والانفصام والندم ومحاولات التبرير شكَّلت نقطةَ ضعفٍ وغضبٍ لكثير من المثقفين الأردنيين الذين خاضوا هذه التناقضات والصراعات القاسية والموجعة، حتى عرار يرحمه الله لم ينجُ من سيطرة هذا الصراع وحضوره الكثيف في عقله وشِعره وسلوكه وقد عاتبه الراحل محمد صبحي أبو غنيمة في رسالةٍ بينهما على بعض مواقفه ذات العلاقة بهذا الصراع العميق الجذور ولكنه انحاز كمحصلةٍ لهذا الصراع القاسي لشعبه وناسه من الطفارى والمساكين، نجا ونجح بعضُ المثقفين الأردنيين في السيطرة على هذا الصراع وعدم التنازل للسلطة والعشيرة ولم ينجُ منه الكثير من المثقفين الأردنيين ومنهم الحمراوي: جنوبي بن سمعان الذي لم تكتمل تحولاته بعد، وسأوردُ هنا قصَّةَ ذاتَ دلالةٍ على هذا الصراع القاسي الذي عاشه كثيرٌ من المثقفين الأردنيين المرموقين، ففي ذات انتخاباتٍ لرابطة الكتَّاب الأردنيين دعوتُ الراحل حبيب الزيودي لانتخاب قائمة تيار القدس، فما كان منه يرحمه الله إلا أن انفعلَ وخرج عن طوره وأجابني: أنا لستُ من المؤلفةِ قلوبهم، أنا أنتمي لهذا التيار، يرحم الله شاعرنا الكبير حبيب الزيودي الذي رحل عنا باكراً والذي جسَّد هذا الصراع بأعلى صوره التراجيدية، وانحاز حبيب يرحمه الله أيضاً كمحصلةٍ للصراع لروحه البدوية النبيلة وانحاز لناسه وشعبه.